كما قُبيل انعقاد كل مؤتمر دولي حول لبنان، تنهمك أجهزة وإدارات الدولة في ورشة عمل تحضيراً له. وغالباً ما ينكبُّ الجُهد على تحسين الأرقام، وتالياً " تجميل" الصورة التي تُعطى للمجتمع الدولي، وهذا حق. بيدَ أن انخراط صندوق النقد الدولي في العملية يجعل الواقع يغلب الصورة الموحى بها. فالصندوق يملك من المعطيات والأرقام العائدة لسلسلة زمنية طويلة ما لا تملكه أية إدارة لبنانية، بما فيها مديرية الإحصاء المركزي. وقد أوقفت الأخيرة على سبيل المثال إحصاءات الناتج المحلي الإجمالي ومكوّناته لناحية الإنفاق عند نهاية العام 2015!... علماً أن إدارة الإحصاء هذه تتخلّف، بإدارتها الجديدة التي كانت "واعدة" في بداياتها، عن دراسة ونشر أية معطيات تعود الى ميزان المدفوعات أو حتى أية معطيات حول المداخيل وبنيتها لا بل حول إنفاق الأسر في لبنان، تاركةً هذه المجاميع إما لمصرف لبنان الذي اختصر ميزان المدفوعات بتغيّر صافي العملات الأجنبية لدى القطاع المصرفي مضيفاً إليها مؤخراً بعضاً من سندات اليوروبوندز التي يحملها في محفظته. أما موضوع المداخيل وتوزّعها أو تمركزها، فهو مغيّب عن الإحصاء المركزي. لذا تتجرّأ على التنظير فيها أوراق بحثية تفتقر إلى الكثير من الدقة العلمية. وأما إنفاق الأُسَر وميزانيّاتها، فهي بدورها باتت شأناً خاصاً تذهب إليه مراكز أبحاث ودراسات بإجراء مسحٍ يبقى، على جدّية أصحابه والجهد المبذول فيه، مجتزأً ولا يعطي صورة متكاملة عن واقع الأسر في لبنان، دخلاً وإنفاقاً. فهناك جوانب عدة لمداخيل وتالياً لإنفاق الأُسَر غير مأخوذة في الاعتبار. الإحصاء المركزي هو شأن سيادي بامتياز، وأملنا أن تهبَّ له إدارة الإحصاء المركزي فتضيء على الكثير مما هو مغيَّب عمداً أم جهلاً أم لضعف الموارد.
ومن غرائب هذه البلاد نقرأ، أيضاً على سبيل المثال، أن لبنان يعتمد في استهلاكه على استيراد السلع من الخارج بما نسبته 85% (نعم 85%!!). ونسرع في استنتاج أن "النموذج" اللبناني ذاهب إلى انهيار. والحقيقة أن استيراد السلع من الخارج يمثل فقط 29% من الإنفاق الوطني (استهلاك الأُسَر والاستثمار). وإذا نسبناه إلى استهلاك الأسر وحده دون الاستثمار، يمثل استيراد السلع ما يقارب 35% فقط وليس 85%!... أما صــــافي الاستيــراد مـــن الصـــادرات، فيبلغ نسبة تدنـــو تبـــاعـــاً عـــن 23% من الإنفـــــــاق الوطنـــي وعن 28% فقـــط مـــن الاستهـــلاك النهائي (Final Consumption expenditures).
ولكي تكون الصورة مكتملة يمكن إضافة الخدمات إلى السلع وتنسيبها إلى الإنفاق الوطني. فتصبح النسبة عندها 51%. وإذا اعتمدنا صافي استيراد السلع والخدمات، أي بتنزيل صادرات السلع والخدمات، تنخفض النسبة إلى ما دون 19% مجدّداً. وما يفسِّر تدني هذه النسبة أن صادرات الخدمات في لبنان تشكّل أكثر من أربعة أضعاف صادرات السلع؛ ما يجعل ميزان تبادل السلع والخدمات أكثر توازناً من ميزان السلع وحدها.
لقد اعتمدنا لاحتساب النسب المدرجة أعلاه مجاميع المحاسبة الوطنية العائدة للاستهلاك والاستثمار، حفاظاً على تناسق الصورة والمخرج في النسب. فمفهوم الإنفاق الوطني أوسع من مفهوم الناتج المحلي الإجمالي، وأصحّ من الأخير لقياس حجم الاستيراد (من السلع والخدمات) في اقتصاد معيّن. إن تنسيب الإنفاق الوطني إلى الناتج المحلي الإجمالي هو بحدود 120%، يعود 99% منه إلى الاستهلاك استناداً إلى آخر الجداول الإحصائية التي وفّرتها مديرية الإحصاء المركزي لعام 2015 ويمثل الاستثمار نسبة 21%.
لقد آن الأوان لإحداث تغيير جذري في مديرية الإحصاء المركزي. فلم يعد مسموحاً هذا القصور الفاضح في الدراسات الميدانية وفي تقدير مجاميع الحسابات القومية المتعلّقة بالإنتاج والإنفاق والمداخيل وإنفاق الأسر والاستثمار العام والخاص والاستثمار الخارجي والمحلي... كي لا نذكر إلاّ بعضاً مما نتوقّعه من أيّ إحصاء مركزي في أيّ بلد في العالم!.. وحبّذا لو يراجع المسؤولون في الإحصاء المركزي ومرجعيّاته الصفحات العائدة للبنان في منشورات وإحصاءات صندوق النقد الدولي فيقفوا على مدى القصور لدينا مقارنةً مع سائر دول العالم ذات مستوى الدخل المماثل لنا. وفي كل تقرير خاص بلبنان يصدر عن الصندوق، يذكّروننا بضرورة توفير الإحصاءات وتطويرها. وربما تعود إلى هذا النقص في الإحصاء العديد من السلبيات التي يكتبونها عن الاقتصاد اللبناني. وفي غياب الإحصاءات، يذهب البعض إلى استخلاص مقولاتٍ متسارعة عن الانهيار وما إليه من طروحات. عَمِلْتُ شخصياً عامَيْ 1999/2000 ضمن فريق عمل اقتصادي حاول استشراف المستقبل، وكنا يومها على اقتناع كبير بحتميّة الانهيار. كان ذلك منذ ما يقارب الـ 19 عاماً! ولم تتحقّق النبوءة لحسن حظ اللبنانيّين ولبنان.
لا يعني هذا إننا بخير أو أن اقتصادنا وماليّتنا العامة والقطاع المالي كلّها بخير!.. فالاقتصاد يعاني من اختناقات بنيوية عميقة تطاول على حدٍّ سواء الموارد البشرية والمكائن وتقنيات العمل وإنتاجية العمل والمؤسّسات، ناهيك عن افتقار الاقتصاد إلى الاستثمار كمّاً ونوعاً، ما يعكس معدّلات نمو متدنية وغير كافية لاستيعاب العمالة اللبنانية لئلاّ نقول غير اللبنانية الدافقة إلينا من كل حدبٍ وصوب.
أما عن المالية العامة فحدِّث ولا حرج. نسمع أرقاماً تتضخّم بفعل جسامة الفساد كعجزٍ بحدود 8 مليارات دولار في مشروع موازنة العام 2018. لو أُقِــرَّ هذا العجز ، لكان وحده كافياً لإلغاء مؤتمر باريس المنتظر. وحسناً التزمت الحكومة عجزاً قدره 4.82 مليار دولار يماثل تقريباً العجز الذي كان مقدَّراً لعام 2017. فهكذا مقدّمات وهكذا مناكفات وهكذا طروحات أصَمَّتْ آذان اللبنانيّين خلال الأشهر الماضية، وهي لا تستولد مؤتمراً ناجحاً بالحدّ الأدنى مهما كان المجتمع الدولي متعاوناً وإيجابياً.
أما القطاع المصرفي الذي يُكسِبُ البلدَ سنوياً وقتاً ثميناً للإصلاح- أقلَّه أَصلِحُوا معضلة الكهرباء التي تُرخي بثقلها على البلد وعلى البيئة!- فهو يتعرّض بدوره لإضعاف غير مسبوق من خلال سيلٍ من الضرائب على مداخيله لا تشبه أيّ إجراء معمول به في العالم! ولا سبب لهكذا معاملة مجحفة إلاّ تعاظم حجم الفساد والحاجة الى تمويله،من جهة، واستسهال تكليف المصارف وجباية الضرائب منها نظراً للشفافيّة المتّبعة في نشر ميزانيّاتها ونتائجها المالية والرقابة المتعدّدة المستويات عليها، من جهةٍ ثانية.
وهكذا كلنا يعي حجم المخاطر التي تحوط بالاقتصاد والمالية العامة والقطاع المالي ولكن ليس ثمّة ما يدعو الى الإعتقاد بأن الانهيار المالي آتٍ أو قريبٍ. فالدولة تخدم مديونيّتها. والقطاع الخاص كذلك. ولدى القطاع المصرفي التجاري والمركزي حجماً من الموجودات الأجنبيّة بالعملات الصعبة والسندات والذهب كافياً لتمويل العجوزات الخارجية لسنوات عدة، نأمل خلالها أن تستفيق الطبقة السياسية الحاكمة بسلطة وسلطان الطائفية فـتحدُّ من مزاريب وزواريب الهدر والفساد المكلفَيْن جداً للاقتصاد الوطني وللاجتماع اللبناني.