قيل الكثير في مؤتمر "سيدر" "CEDRE " ثناءً وانتقاداً. ليس كل الذمّ خطأً أو تحاملاً كما وليس كلّ المدح محقّاً لما في بعضه من تضخيم!.. وتَخَطّياً للمواقف "المتطرّفة" في الاتّجاهين، تبقى مصلحة البلد والناس هي في المقام الأخير ما يجب أن يقرّر تعاملنا مع نتائج هذا المؤتمر. وقد تعود صعوبة اتّخاذ موقف إيجابي من المؤتمر لدى المتشائمين إلى تجارب عديدة على مرّ السنوات الأربعين الماضية (1978 – 2018) بدءاً من تأسيس مجلس الإنماء والإعمار حتى اليوم. ولعلّ جعل تنفيذ كلّ هذه البنى التحتية من مسؤولية المجلس المذكور، على انعدام فعاليّته المزمن، تمنح المتشائمين سبباً إضافياً للتشكيك المسبق ناهيك عن القدر العالي من الهدر لئلا نقول الفساد الذي ميَّز عمله. وحسناً، تقـرّر في مؤتمر باريس تكليف الصندوق والبنك الدوليَّيْن إجراء تقييم لأنظمة إدارة الاستثمارات العامة في لبنان واقتراح الأطر التنظيمية الملائمة. في المقابل، يجد المتفائلون بأعمال ونتائج المؤتمر، وبالعودة أيضاً إلى الماضي، أن مؤتمرات باريس في مطلع الألفية الثانية أنتجت مفاعيل لا يُستهانُ بها، وأبرزها جعل الاستقرار النقدي ممكن الاستمرار، ما حمى لقمة عيش اللبنانيّين، وبخاصة ذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية من تدهور محتوم في حينه وما يزال. ولنا عودة إلى المفاعيل الإيجابية على الوضع النقدي في حال النجاح في تنفيذ برنامج الاستثمارات العامة أو إلى المفاعيل السلبية في السنوات المقبلة إذا تخلّف لبنان عن تطبيق هذا البرنامج.
مسألتان نوَّد التوقف عندهما في تقييم مؤتمر سيدر: تعود أولاهما إلى مقولة أن الإصلاحات التي تعهّدت بها الدولة اللبنانية فُرِضَتْ علينا من الخارج، وأنها تكبِّل البلاد والعباد لعشرات السنين الآتية. أما المسألة الثانية، فتركّز على الانعكاسات الماكرو-اقتصادية التي تمَّ إعدادها من قِبل صندوق النقد الدولي، إذ تبقى الأفضل على هذا الصعيد خصوصاً في ما يعود إلى ربط الإصلاح بالاستثمار.
على صعيد الإصلاحات المطروحة، نستعجل القول إن جعل الإصلاحات المطلوبة كشروط هو طرح غير محقّ وغير عادل. ويُستعمل في السياسة الداخلية القائمة على المناكفة وعلى الاعتراض بمجرّد أن وراء هذا المؤتمر طرف أو أطراف سياسية تناصبها العداء. فكلّ ما أتى منها سيّءٌ ومُدان!... هذه الإصلاحات ليست فقط غير مفروضة بل ضرورية، ويستدعيها التنفيذ الجيّد والمقبول لبرنامج الاستثمار في البنى التحتية. فكيف ننطلق في ورشة عمل بهذه الضخامة دون توفير شروط إدارة جيّدة لها ودون إيجاد إطار تنفيذي بالحدّ الأدنى من الشفافية، أي بالحدّ الأدنى من الهدر والفساد! منذ سنوات، ناقشت بعض لجان (أو لجان فرعية) في المجلس النيابي موضوع إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وحتى الآن لم يجرِ إقرارها!. ثم كيف نوكل للمجلس الأعلى للخصخصة HPC مهام إدارة ومواكبة مشاركة القطاع الخاص في إعادة تأهيل وتطوير البنى التحتية من خلال آلية الشراكة بين القطاعين PPP دون توفير أطر تنظيمية مفصَّلة لهذا المجلس ودون إمداده بالكوادر والخبرات الملائمة؟!.
كيف نضخ في إصلاح قطاع الطاقة 2151 مليون دولار في المرحلة الأولى ثمَّ يلحقها 3441 مليوناً في المرحلتين اللاحقتين، أي ما مجموعه 5,6 مليار دولار ونُبقي على مسارب الهدر وسرقة التيار وعدم جباية الفواتير وعدم وقف التعليق غير الشرعي؛ ونُبقي كذلك على سياسة تسعير لا تغطّي جزءاً من الكلفة!؟.. وليس ما يمنع طبعاً السلطات المعنيّة، عند وضع سياسة التسعير، من أن تلحظ تسعيراً خاصاً لبعض الفئات الاجتماعية التي تريد دعمها.
الإصلاحات هي في قلب برنامج الاستثمار، وليس شيئاً مفروضاً من خارج البرنامج أو من خارج الحدود!. وبدل الذهاب إلى مقولات غريبة عن أيّ منطق، حبّذا لو لَعِبَتْ بعض وسائل الإعلام دورها كسلطة رابعة بدايةً في الإصرار على تنفيذ البرنامج الاستثماري، فلا تتعفّن مكوّناته في أدراج مجالس الإنماء والإعمار والمهجّرين ومجلس الجنوب.. ولاحقاً في مواكبة ومراقبة عملية الاستثمار العام بدل التشويه والتشويش؛ وحبّذا لو لَعِبَتْ مكوّنات المجتمع المدني أيضاً دورها في المتابعة، فتفضح التجاوزات وتُشَهِّر بالفاسدين كمقدمة لتقديمهم إلى العدالة. وحسناً فعل المركز اللبناني للدراسات بإطلاق موقع " نيابةً عنّي" لتقييم أداء النواب الحاليّين. ولكي تؤدّي وسائل الإعلام ومكوّنات المجتمع المدني دورها على هذا الصعيد، لا بدَّ من أن تعزّز قدراتها وكوادرها وأنظمة عملها.
نتوقّف في القسم الثاني من هذه المقالة عند الإطار الماكرو-اقتصادي لبرنامج الاستثمار في البنى التحتية. وفي اعتقادنا أن المقاربة التي تقدَّم بها صندوق النقد الدولي تبقى الأفضل على هذا الصعيد. وهي تعبِّر عن قناعة الدول والمؤسّسات المالية الدولية التي شاركت في المؤتمر.
ويتمثّل المنطلق الأول والأساسي لكلّ الجهات الدولية المعنيّة في ضرورة وقف التدهور الماكرو-اقتصادي بما هو تراجع معدّلات نمو الاقتصاد اللبناني إلى مستوى 1%-1,5%. ويعود السبب في انعدام النمو الاقتصادي إلى ضعف الاستثمارات العامة وكذلك الاستثمارات الخاصة التي بلغت تباعاً 1,4% ودون 18% من الناتج المحلي الإجمالي؛ وترافق تباطؤ النمو مع عجوزات متفاقمة في المالية العامة من المقدَّر، في غياب التصحيح المالي والاستثمارات، أن تصل في مدى السنوات الخمس القادمة إلى حدود 13% كنسبة من الناتج بدلاً من 7,5% للعام 2017. فينتج عن مزاوجة ضعف معدّلات النمو وازدياد معدّلات العجز المالي تفاقم المديونية العامة التي قد تسجِّل نسبة تقارب 180% من الناتج المحلي الإجمالي.
بالمقابل، وفي حال التزمت الدولة اللبنانية بالإصلاحات التي أدرجتها في ورقة العمل المقدّمة الى المؤتمر، وفي حال تمَّ تنفيذ برنامج الاستثمار في البنى التحتية الذي اعتمدته الجهات الدولية المشاركة، يدخل لبنان في سيناريو إيجابي ومفيد. إذ من شأن الاستثمار في البنى التحتية أن يخلق نمواً في الاقتصاد قد يحقّق مضاعف استثمار بمقدار 1,8 مرّة إلى 2,0 مرّة، استناداً إلى قواعد المحاسبة الوطنية العائدة إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي!.. ونأمل من إدارة الإحصاء المركزي أن تعلمنا بمضاعف الاستثمار حالياً إذا كانت قد احتسبته؟... وبالعودة إلى صندوق النقد، فإنه يتوقّع مع فرضيّة الإصلاح والاستثمار أن ينمو الاقتصاد بمعدّلات ترتفع تدريجياً وصولاً إلى ما يزيد عن 6% في مدى السنوات الخمس 2018-2023؛ كما يتوقّع أن يتقلّص عجز الموازنة من 10% حالياً إلى 6% للفترة ذاتها، وأن تتراجع نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الإجمالي من 155% إلى 148%. والأهم من ذلك أنَّ الصندوق يتوقّع تراجع العجز في ميزان المدفوعات الجاري من 26,3% إلى 20,7%. تبقى النسبة الأخيرة مرتفعة قياساً إلى ما هو سائد عالمياً لكننا نكون قد وضعنا العجز الخارجي في سياقٍ تصحيحي انحداري. ذلك أن استمراره على المستويات القائمة يمكن أن يعرِّض الوضع النقدي لمخاطر يصعب احتمالها.
على الصعيد النقدي، وهو البعد الأكثر التصاقاً بلقمة عيش اللبنانيّين، يشكّل إنجاح المؤتمر في جانبي الإصلاحات والاستثمارات الضامن الوحيد لصون الاستقرار النقدي. إذ أن استمرار العجز الكبير في ميزان المدفوعات الجارية (25% إلى 23%) سيستنزف احتياطي العملات الأجنبية لدى القطاع المصرفي بحيث يتراجع حسب تقدير صندوق النقد الدولي من 37,5 مليار دولار إلى 18,6 مليار دولار عام 2023. وفي حال تنفيذ لبنان الإصلاحات والتزام المجتمع الدولي بالاستثمارات، فإن حجم هذه الاحتياطات قد يرتفع من 39,7 مليار دولار إلى 53 ملياراً لفترة 2018 – 2023. ما يعطي النظام المصرفي، التجاري والمركزي، الإمكانات الضرورية للحفاظ على الاستقرار النقدي، وما يسمح للقطاع المصرفي، إزاء التحسّن المرتقب في نمو الودائع، بأن يرفع معدّلات التسليف للاقتصاد من 4,2% إلى ما يزيد عن 6%. وفي اعتقادنا، استكمالاً للحلقة الفضلى التي قد تميّز تنفيذ مقتضيات مؤتمر "سيدر"، أنه لا بدّ من تغيير جذري في السياسة النقدية باتجاه تخفيض بنية الفوائد على الودائع، ما يشجّع الاستثمارات الخاصة ويزيد وتيرة نمو الاقتصاد. فليس مفهوماً أن ترتفع الفوائد في فترةٍ يعمل العالم على مساعدتنا. حَرِيٌّ بنا أن نساعد أنفسنا!!
ختاماً، لا مناص من كلمة حول القطاع الخاص المطلوب منه مشاركة فعّالة في الاستثمارات. ونحن على يقين راسخ وصادق من أن القطاع الخاص يحتاج كما الدولة لإصلاحات واسعة كي يكتسب فعاليةً وإنتاجيةً في نشاطه وأدائه. فالشراكة (PPP ) ليست سحراً يحقّقها قانون من هنا وإجراءات إدارية من هناك. والتجارب الماضية في حقل التعهّدات والأشغال العامة، وما انطوت عليه من خلافات انتهت في المحاكم أو في التحكيم الدولي هي تجارب غير مشجِّعة. وتحتاج إلى مراجعة صريحة ينبّه إليها كذلك البنك الدولي وصندوق النقد. والفساد ليس حكراً على العام دون الخاص! هذا ما خَلُصَتْ إليه اجتماعات الربيع في واشنطن، حيث تقرر أن تتضمّن مستقبلاً مهام بعثات صندوق النقد إلى العالم مهمّة خاصة تبحث "عن طبيعة الفساد وخطورته في البلد المعني، ذلك أن الفساد يضرّ بالفقراء ويقوّض الثقة بالمؤسّسات"، كما جاءَ على لسان المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي السيدة كريستين لاغارد. ويقدّر الصندوق حجم الفساد بـ 2% من الناتج العالمي، أي بما يقارب 1500 مليار دولار!.
والفساد نظراً لاتّساعه في لبنان (5% من الناتج كحدّ أدنى) لن يخفى على مَن يريد أن يراه من أهل الداخل ومن بعثات الخارج!..