مؤخّراً، أصدرت إدارة الإحصاء المركزي الحسابات القومية لعام 2016. ويجدر التوقف عندها للتطرّق الى بعض أهم ما تضمّنته حول النمو الفعلي والإسمي للناتج المحلي الإجمالي وحول بنية تكوينه لناحية الإنتاج والانفاق. وبالرغم من العديد من النواقص التي كنا نأمل سدّها خصوصاً في ما يعود الى توزّع المداخيل وبنيتها العامة وكذلك بالنسبة الى موازين المدفوعات الجارية، بالإضافة الى بنيتها وحركات الرساميل والحسابات الرأسمالية، ولا سيّما بنية التحويلات الى الأُسَر المقيمة وكذلك التدفقات من وباتّجاه اللاجئين (وكأنهم لا يشكّلون أية ظاهرة بالنسبة الى الإحصاء المركزي !..) وأخيراً ضرورة الإضاءة على مكوّنات القطاعات الإقتصادية ومساهمتها في تكوين الناتج المحلي وفي الإستهلاكات الوسيطة، نقول بالرغم من هذه النواقص، فإن الإفراج عن المعطيات العائدة الى العام 2016 حركة إيجابية على الطريق الصحيح الذي نأمل الاستمرار في تطويره. فالحكومة ومجتمع الأعمال ومختلف الأنشطة والقطاعات تحتاج الى المعلومات المجمّعة لاقتصاد البلد. ويشجّع توافرها المستثمرين على الإقدام على المزيد من الإستثمار القائم والجديد، كما يساعد الإدارات والمؤسسات العامة على وضع الخطط والتحرك في الاتجاهات المفيدة.
تُستنتج من المعطيات المنشورة ثلاث خلاصات أساسية. أولها أن معدلات النمو خلال فترة السنوات الخمس الماضية 2011 – 2016 جاءت معتدلة لئلا نقول متدنية وفي حدود 5% مقارنةً مع معدلات نمو بلغت في المتوسط السنوي للأعوام 2005 – 2010 ما مقداره 10,7%. طبعاً يبقى معدل النمو المشار اليه (5%) مرتفعاً نسبياً غير أن ما يزيد عن ثلثه (36%) متأتٍّ من النمو الحقيقي مقابل 64% من تطور الأسعار. أما العام 2016 فقد سجَّل نمواً إسمياً بنسبة 3,15% مقارنةً مع العام 2015. ويقدّر صندوق النقد الدولي أن يكون الاقتصاد اللبناني في العام 2017 قد نما بمعدّل 3,7%، يعود منه 1,2 للنمو الحقيقي و2,5 لمخفِّض أسعار الناتج المحلي الإجمالي (Deflator). فتكون قيمة الناتج لعام 2016 قد بلغت 49,6 مليار دولار حسب إدارة الإحصاء المركزي و51,5 ملياراً حسب صندوق النقد الدولي كما جاء في ملخّص تقريره الأخير (المادة الرابعة). ويتوقّع الصندوق استناداً إلى التقرير المذكور أن يرتفع الناتج اللبناني لعام 2018 إلى 53,6 مليار دولار أي بمعدّل نمو يفوق 4% بأسعار السوق الجارية.
يعود الاستنتاج الثاني الذي تسمح به مراجعة منشور إدارة الاحصاء المركزي الى علاقة الناتج بالخارج من خلال فجوة الاستيراد والتصدير للسلع والخدمات. وقد بلغت هذه الفجوة ما يزيد عن 11 مليار دولار بالأسعار الجارية لعام 2016 وما نسبته الى الناتج المحلي الإجمالي 21,5% بل وتتعدّى النسبة 25% (!) في حال اعتمدنا الأسعار الثابتة للعام السابق، أي 2015. وينعكس هذا العجز التجاري بمعظمه عجزاً في ميزان الدفوعات الخارجية الجارية الذي يدرجه صندوق النقد في تقريره الأخير بنسبة تفوق الـ 20% من الناتج الإجمالي للبنان لعام 2017 وتقارب 26% لعام 2018.
طبعاً، كما كتبنا مراراً وتكراراً، يعكس هذا العجز الخارجي (التجاري والجاري)، من جهة أولى، ضعف البنى الإنتاجية في البلد، ومن جهة ثانية، ضعف معدَّلات الادخار الوطني الإجمالي والتي يقدّرها صندوق النقد سلبيةً (- 4,3% من الناتج لعام 2018) مع تزايد سلبيتها في السنوات الخمس القادمة 2019 - 2023. ويتقلّص هذا العجز التجاري الكبير الى مستويات أدنى، أولاً، بفعل التدفقات الصافية من اللبنانيّين العاملين في الخارج والبالغة حوالي 3 مليارات دولار عام 2016 استناداً الى الإحصاءات الصادرة عن الإحصاء المركزي. كما يتقلّص، من جهة ثانية، بفضل الاستثمارات المباشرة التي تقدّرها منظمة الأونكتاد (UNCTAD) أيضاً بحدود 2,6 مليار دولار لعامَيْ 2016 و2017 أي بما يوازي 5% من الناتج المحلي الإجمالي. وعرف لبنان فترات ماضية سجّلت خلالها الاستثمارات المباشرة الأجنبية نسباً أعلى بكثير كما في العام 2005 عندما بلغت ما يزيد عن 15% كما ورد مؤخّراً في النشرة الأسبوعية لبنك بيبلوس. طبعاً تُضاف الى تحويلات العاملين والى الاستثمارات الأجنبية المباشرة تدفقات مالية أخرى، خصوصاً نتيجة الهندسات المالية المتزايدة عدداً وحجماً والتي يلجأ اليها مصرف لبنان. وتساهم هكذا عمليات بدورها في تغطية جزءٍ اضافيٍ من العجز التجاري الهائل الذي أشرنا اليه أعلاه. وينتج عن هذه التدفقات المالية القصيرة الأجل بحكم طبيعتها وبحكم انجذابها الى التوظّف بغية الحصول على فوائد عالية وسريعة مخدومة على الودائع في لبنان، ينتج عنها ضمور إضافي في العجز الخارجي وحتى فوائض في ميزان المدفوعات الخارجية لبعض السنوات. للدلالة على ذلك، فإن الأرصدة الإجمالية لموازين المدفوعات في لبنان سجَّلت خلال فترة 2009 – 2017 فوائض متراكمة قاربت 2850 مليون دولار مع الأخذ في الاعتبار السنوات الست العجاف بعجوزاتها!..
وطبعاً، إن احتساب مصرف لبنان محفظته من سندات اليوروبوندز اللبنانية ضمن رصيد ميزان المدفوعات لا يصبح حقيقياً إلاّ إذا استطاع بيع ما ينوي احتسابه إلى أشخاص (طبيعيّين أو مؤسساتيّين) غير مقيمين، ما يُدخِل فعلياً سيولة بالعملات الأجنبية إلى موجوداته الخارجية.
يعود الاستنتاج الثالث التي تسمح به مراجعة تقديرات الحسابات القومية لعام 2016 إلى البنية الإجمالية للقطاعات التي تولّده حيث يتبيَّن أن مساهمة القطاعات المنتجة للسلع – الزراعة، الصيد، الصناعات التحويلية، الكهرباء، المياه والبناء – تشكّل مجتمعةً أقل من عشرين بالمائة (19,6%) من الناتج دون تضمينه الضرائب. ما يعني أن ما يزيد عن 80% يتمثل في مساهمة التجارة والخدمات، بما فيها الخدمات الإدارية والتعليم والصحة. وإنتاجية هذه الخدمات المحلية متدنية وتالياً مساهمتها في النمو الاقتصادي متدنية.
إن طبيعة ونوعية هذه الخدمات - باستثناء النذر اليسير منها – محلية ويصعب تصديرها، خصوصاً مع تراجع السياحة والوساطة التجارية المالية وحركة الترانزيت ومركزية مطار ومرفأ بيروت بل وجامعات لبنان.
وتحمل الخدمات المنتجة محلياً في أسعارها الرائجة قدراً من التضخم لانعدام المنافسة لها في الأسواق اللبنانية خلافاً لأسعار المستوردات. وهذا ما يفسّر معظم الفارق بين مستوى الأسعار المحلية ومخفِّض الناتج. وبالعودة مرةً جديدة الى ملخّص التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي، نجد أن مُخفّض الناتج بلغ تباعاً 2,5 و2,7 لعامَيْ 2017-2018 تقابلها معدّلات أسعار الاستهلاك 5,0 و3,5 للفترة ذاتها 2017-2018. ولاستكمال الاستنتاج الثالث، لا بدَّ من كلمة إضافية حول بنية الناتج المحلي الإجمالي لجهة الإنفاق، حيث يشكّل، حسب إدارة الإحصاء، الاستهلاك النهائي 101% منه تتوزّع على الاستهلاك الأسري الخاص بنسبة 88,5% وعلى استهلاك القطاع العام بنسبة 12,2%. يبقى أن فجوة الصادرات / الواردات توازن عملياً حصة الاستثمار من الناتج الإجمالي حيث يمثل القطاع الخاص حصةً منها قدرها 92% والقطاع العام 8%. وهكذا فإن للاستهلاك النهائي حصة الأسد في تكوين الناتج المحلي في لبنان. ولا يمثل الاستثمار تالياً سوى نسبة 16,5% من الطلب الإجمالي و20 إلى 21% من الناتج كما يظهره تقرير صندوق النقد. وتبقى هذه الحصة ضئيلة إذا أردنا معدّلات نمو حقيقي أعلى، ما يستدعي عندها معدّلات استثمار تفوق الـ 30% بل وبحدود 35 إلى 40% كما كانت الحال في الصين خلال العقود الأربعة الماضية!! إن فجوة الموارد هي الأساس "النظري" الذي بُنيَتْ عليه ورقة الحكومة اللبنانية إلى مؤتمر باريس للاستثمار.
أما أسباب تراجع وضعف معدّلات الاستثمار في لبنان، فتعود إلى مجموعة من خمسة عوامل. أولها عدم كفاءة الاستثمار حجماً ونوعاً. فالاستثمار في الأراضي والمباني يظلّ ذا أثر آني وغير متوسط أو طويل. وثاني الأسباب يكمن في رداءة بل غياب أية سياسات عامة من قبل الحكومة والمؤسّسات والإدارات ذات العلاقة. ويرجع ثالث الأسباب إلى انكفاء الاستثمار الأجنبي المباشر مقارنةً مع فترات سابقة. وعوائقه عديدة ليس أقلّها الفساد المستشري الطارد للمستثمرين الجيدين والجاذب للرديئين منهم. ومنها رابعاً بنية الضرائب المتزايدة عشوائياً والمتصاعدة باستمرار مقارنةً مع العديد من الدول والاقتصادات ذات الحوافز لاجتذاب المستثمرين. ويكاد أن يكون الهدف الأوحد للسياسة الضرائبية تأمين تمويل الإنفاق العام خارج أية سياسة إنمائية أو تشجيعية لمجتمع الأعمال. أما العامل الخامس والأخير، فيعود إلى الفوائد في القطاع المصرفي المركزي والتجاري حيث باتت معدّلات الفوائد تشكّل الأداة الأهم للاستمرار في سياسة الاستقرار النقدي التي تحظى بإجماع اللبنانيّين حكّاماً ومحكومين. وتردع الفوائد العالية ليس فقط الاستثمار بل تدفع أصحاب الأموال إلى تفضيل توظيفها بأدوات سائلة بدل استثمارها مع كل العوائق الإدارية والعامة التي أسلفنا ذكرها. فالسياسة النقدية، والحق يُقال، هي عندنا نتيجة للسياسات المالية التوسّعية أو لغياب السياسات الإنمانية الاقتصادية والاجتماعية.
إزاء ضعف التمويل وغيابه وتالياً أمام حركة الركود وعدم خلق فرص عمل للأجيال الوافدة إلى سوق العمل، خصوصاً من الجامعات واستمرار هجرتها المتزايدة إلى الخارج تخيّم على البلد أجواء من التشاؤم لها طبعاً ما يبرّرها كما ذكرنا أعلاه. ولكن أن يُستعمَل هذا الوضع لخلق أجواء من التيئيس للبنانيّين، فهو غير مبرّر وغير واقعي وأكاد أقول غير أخلاقي خصوصاً في ما يُشاع عن قرب الانهيار المالي وما إليه من مذاهب لا أساس لها من الصحة.
فالأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة لم تشهد هذا العام مقارنةً مع العام السابق أية تغيّرات جذرية تستدعي هذا الكمّ العارم من التشاؤم والسلبية. فبالرغم من الأحوال الاقتصادية غير المؤاتية حافظت الليرة على استقرارها، طبعاً بكلفة أعلى، وحافظت المصارف على ملاءَتها بل زادتها، وعلى سيولتها بل زادتها وعلى قدرتها على تمويل الدولة مباشرةً أو من خلال البنك المركزي. كما حافظت المصارف على نوعية محافظها بالرغم من ازدياد معدّلات الديون المشكوك بتحصيلها والتي ارتفعت صافيةً من 3,9% إلى 3,97% بفضل سياسات المصارف في تكوين المؤونات. كما حافظت المصارف على ربحيتها بل وزادتها، لا سيّما بفضل توسّعها الخارجي وبالرغم من تحميلها غير العادل لضرائب غير مسبوقة عالمياً. وللمرة الأولى، ها هي مؤسسات التقويم العالمية – موديز، ستاندرد اند بورز، فيتش إبكا وكابيتال انتلجنس – تُجمع على وصف النظرة المستقبلية Outlook الى المخاطر السيادية في لبنان للمديَيْن القصير والطويل وكذلك للأدوات المحرَّرة بالعملة اللبنانية وبالعملات الأجنبية على وصفها بالمستقرّة Stable.
فليتَّقِ نذراءُ الشؤم اللهَ في ما يروِّجون وينشرون. ففي هذا النوع من الشائعات أذىً ليس لكبار رجال الأعمال وأصحاب الثروات، إذ أن لمعظم هؤلاء تواجد خارجي يقيهم طارئات الأزمنة الصعبة؛ بل الأذى كل الأذى قد يقع على الفئات الاجتماعية من ذوي الدخل المحدود وعلى أصحاب المداخيل المحرَّرة بالعملة الوطنية. واجبنا تقوية الليرة اللبنانية بكل الوسائل وليس تصيُّد الفرص لإضعافها. معركة مَنْ تكون همومُ الناس هي فعلاً همومهم، من الطبيعي أن يكونوا ضد الفساد ونهب المال العام وإضعاف سلطة الدولة وليس ضد القطاع المصرفي فيما يجهد القيِّمون على إداراته للحفاظ على استقرار النقد الوطني ومن ثمَّ على القيمة الشرائية لأجور الناس ومدّخراتهم.