لماذا هذه الهجمة على المصارف؟
بل وفي مصلحة من ؟!..
على سبيل المثال لا الحصر، تكتب طالبة وباحثة لبنانية أطروحةً في باريس بإشراف الاقتصادي الشهير توماس بيكيتي عن التفاوت الصارخ بين المداخيل في لبنان. وهو عمل بحثي جيّد، يؤشر إلى واقع أليم حيث يتّصف توزّع الدخل في لبنان بتمركز عالٍ جداً إذ إن 15% من السكان يستحوذون على 57% من الدخل بينما يحصل 50% من السكان على 10% من المداخيل أو أكثر قليلاً. وتزداد الفوارق ارتفاعاً كلما تقلّصت نسب التركّز.
هذه الدراسة ليست موضوع بحثنا، بل الاستعمال الذي ذهبت إليه وسيلة إعلامية من خلال إدراج عناوين لا تمتّ الى الدراسة بصلة كـ "دويلة المصارف"و " حكم المصارف " !؟. تستسهل الصحيفة استعمال مفاهيم الدويلة والحكم ربّما لإبعاد أنظار اللبنانيّين عن الدويلة الحقيقية وعن ممارسة الحكم الفعلي في البلد!
وهذا الإصرار على "شيطنة" القطاع المصرفي يجد في التشريعات - القوانين والقرارات التنفيذية- التي تطاول القطاع منذ حين مناسبةً ومناخاً مؤاتياً لمَن يرغب في المزايدة والشعبوية كأحد الإعلاميّين الأذكياء والمطّلعين، الذي يُكثر من إطلالاته في البرامج الحوارية " التوك شوز". فلدى الحديث عن الضرائب على المصارف، لوَّحَ هذا الإعلامي بورقة بيده مدّعياً أن هيئة التشريع والاستشارات قد أصدرت قراراً لمصلحة المصارف في الجدل الدائر حول القرار الوزاري الصادر تنفيذاً للقانون 64/2017. وفي الحقيقة، تعود المعلومة لموضوع قديم غير المطروح حالياً. وطبعاً، ليست الجمعية هي التي طلبت الرأي فيه!.
نترك جانباً هذه الحملة الإعلامية المغرضة والتي اعتدنا عليها لنعود إلى جوهر الموضوع، وهو الضرائب على القطاع المصرفي، والتي باتت غير واقعية بل ومؤذية للقطاع والاقتصاد والبلد في آن.
إن إدراج بعض المعطيات يوضح صورة الظلم الذي تتعرّض له المصارف. فقد جاءت حصيلة ضريبة دخل الشركات استناداً الى بيانات وزارة المالية خلال العام 2016 -على أساس معدّل ضريبة 15% - ما مقداره 1143 مليار ل.ل. وبلغت حصة المصارف منها 776 ملياراً، أي ما تقارب نسبته 68%. علماً أن مساهمة المصارف في الناتج المحلي الإجمالي هي فقط 6% تتوزّع بين أرباح المصارف (4,5%) وأجور العاملين في المصارف (1.5%). أوليس الناتج المحلي الإجمالي هو حصيلة الأرباح والأجور إذا أحتُسِبَ من باب الدخل؟!... طبعاً، المصارف تؤدي ضريبة الأرباح كاملةً. فحساباتها شفّافة، وتُنشر حسب قواعد المحاسبة العالمية السليمة، وتخضع لرقابة شركات التدقيق العالمية كما لرقابة السلطات النقدية والرقابية في لبنان. فكيف تساهم المصارف بـ 68% من حصيلة الضرائب على دخل الشركات، أي بما يتعدّى أضعاف أضعاف حصتها من أرباح قطاع المؤسّسات بما فيها الفردية، وقطاع الشركات والمهن الحرة في لبنان، والذي لا يُعقل أن يقلّ عن 50% من الدخل الوطني الإجمالي، أي 26 مليار دولار يُفترض أن يوفّر للخزينة حصيلة تناهز 6000 مليار ليرة لبنانية !!... وتعطي هذه الأرقام فكرةً عن حجم التهرّب الضريبي في البلد، من جهة، وعن قصور إدارة الضريبة عن استيفاء حقوق الخزينة، من جهة ثانية، فتستسهل هذه الإدارة مدّ اليد إلى المصارف باعتبارها الأكثر شفافية والتزاماً بالقوانين، بدل تفعيل الرقابة والجباية، والإفادة من المكننة الواسعة التي أدخلتها الثورة الإلكترونية في العقدين الماضيَيْن!...
في الحقيقة، إن وزارة المالية، من خلال القرارات التي أصدرتها إنفاذاً للتشريعات التي أقرَّها المجلس النيابي الكريم، أحدثت أعباءً ضريبية على القطاع المصرفي من النادر لئلا نقول من المستحيل إيجاد ما يماثلها نوعيةً وحجماً في العالم، ليس في الدول المتقدمة فحسب بل وفي الدول الناشئة والنامية أيضاً.
بدايةً، أُخضِعت عوائد سندات الخزينة اللبنانية لضريبة الفوائد بمعدَّل 5% وحالياً بمعدّل 7%، ثم توسّع نطاق هذه الضريبة إلى شهادات الإيداع بالليرة وبالدولار التي يصدرها البنك المركزي وتكتتب بها المصارف. ثم أُلحقت الضرائب المشار إليها بثالثةٍ غير مسبوقة في العالم، طاولت عمليات الإنتربنك بين المصارف نفسها، من جهة، وبينها وبين مصرف لبنان، من جهة ثانية. فاكتمل حصار القطاع المصرفي بسياجٍ من الضرائب على الأرباح تُقتطع منها نسبة 50%، إذا أضفنا إليها ضريبة الأرباح البالغة 17%، وهي الضريبة الوحيدة المحقّة بين هذا السيل العارم من التكليف الضريبي. وضريبة الأرباح بمفهومها الضيق هي الضريبة الوحيدة التي تؤدّيها المصارف في العالم على مداخيلها، إلاّ في لبنان!
لقد تضمّن القانون رقم 64/2017 في المادة 17 منه ثلاثة تعديلات أساسيّة على المادة 51 من القانون رقم 497/2003. جاء في أول هذه التعديلات أن ضريبة الفوائد على المصارف (الـ 7%حالياً) تُعتبر عبئاً ينزَّل من المداخيل وليس ضريبة تُقتطع مسبقاً وتنزَّل من ضريبة الأرباح. فأحدث هذا التعديل ازدواجاً ضريبيّاً تفوق حصيلته 513 مليار ل.ل. استناداً إلى معطيات العام 2017، وهذا هو جوهر المشكلة. أما التعديل الثاني للقانون 64/17 فتمثّل في إلغاء الاستثناء من ضريبة الفوائد على ودائع المصارف فيما بينها ولدى مصرف لبنان! ما يحمّل أرباح المصارف مبلغاً إضافياً يقارب 430 مليار ل.ل. وإذا اعتبرنا أن ضريبة الأرباح - الوحيدة المحقّة والطبيعيّة- ستكون عام 2017 بحدود 460 مليار ل.ل. تصبح ضريبة أرباح المصارف بحدود 1403 مليار ليرة لبنانية، أي ما نسبته 52% من مجمل أرباح المصارف!.
ومع الأخذ في الإعتبار الانعكاسات الرقميّة المبيَّنة أعلاه، تترتّب على المادة 17 من القانون 64/2017 جملةُ نتائج يجدر التوقف عندها لجسامة مخاطرها. يأتي في مقدمها أن ربحيّة رساميل المصارف التي تدور حول 10% إلى 12 % حالياً ستتدهور إلى مستوى 5% إلى 6%. فأيّ نشاط أو قطاع يقبل بمثل هذا المستوى من الربحيّة في بلد ذي مخاطر مرتفعة كلبنان؟! وبهذه المعدَّلات المتدنّية للمردود على الاستثمار، يستحيل إقبال المستثمرين على الاستثمار في فترة تحتاج المصارف خلالها إلى زيادة رساميلها لضرورة الاستمرار في تمويل الدولة وتمويل القطاع الخاص. يزيد هذا التمويل للإقتصاد بقطاعيْه العام والخاص حالياً عن 92 مليار دولار، 60 ملياراً منها للخاص بما فيها القروض المدعومة (14,4 مليار) والقروض السكنية (13 ملياراً). وللعلم، يشكِّل الإقراض للقطاع الخاص في الوضع اللبناني الراهن المصدر الوحيد لنمو الاقتصاد مع ضمور الاستثمار وفجوة المدفوعات الخارجية.
>وينتج عن هذه الضرائب الإضافية على المصارف، غير العادلة وغير المتوازنة، خروج على اقتصاديات العقود بين المصارف، من جهة، والدولة والبنك المركزي، من جهة ثانية. فالمصارف وظَّفت لدى الخزينة والبنك المركزي بعوائد تأخذ في الاعتبار كلفة الودائع للجمهور، وكذلك كلفة الضرائب. ويُفترض بأيّ تشريع جديد أن يستثني الأدوات – السندات وشهادات الإيداع والودائع لدى مصرف لبنان – التي وُظّفت في تواريخ سابقة لصدور القانون 64/2017. والحقيقة أن القانون الأساسي الذي أقرَّه المجلس النيابي عام 2003 كان قد استثنى من ضريبة الفوائد المبالغ المودعة لدى مصرف لبنان وكذلك سندات الخزينة المصدرة قبل تاريخ القانون. وفي بعض وسائل الإعلام، يُعزى هذا الاستثناء خطأً إلى قرار لدولة الرئيس فؤاد السنيورة، وزير المالية في حينه، والصحيح أنه جاء في صلب القانون آنذاك! ما يعني أن التشريع عام 2003 جاء أكثر توازناً واحتراماً لمبادىء قانونية يعمل في ظلّها لبنان منذ عشرات السنين.
أخيراً، وأبعد من مسألة الازدواج الضريبي، لا بدّ من الإشارة الى إن لودائع المصارف لدى البنك المركزي، بما فيها شهادات الإيداع والحسابات الأخرى، منطقها المصرفي. فهي تشكّل أولاً وقبل كل شيء سيولة تستخدمها المصارف لإتمام عمليات الإقراض ولتأمين انتظام وسائل الدفع في شقّيها الداخلي والخارجي. وتشكّل ثانياً حمايةً لسعر صرف الليرة اللبنانية، وتالياً أهم عامل استقرار لمداخيل اللبنانيّين. وتشكِّل ثالثاً وأخيراً أداةً أساسيّة بمتناول البنك المركزي لإدارة السيولة المصرفية، من جهة، ولتوفير سيولة الاقتصاد بغية إبقاءه بعيداً عن التضخّم أو الإنكماش، من جهة ثانية.
الضرائب على عمليات المصارف مع مصرف لبنان وفيما بينها، أي الضرائب على الانتربنك، تخرج عن المألوف وتؤسّس لإشكاليّة كبيرة ومعقَّدة في إدارة النظام المالي. وهذه المقاربة لا تصبّ إطلاقاً في مصلحة الدولة وإدارة المال العام. ويُخشى أن يسجَّل هذا النهج في إدارة المالية العامة بأنه الخطوة الأولى في ضرب نظام مالي يخدم الاقتصاد الوطني ويوفّر الاستقرار المالي منذ عقود عدّة. فليتحمّل كل طرفٍ مسؤوليّته. فالوضع المالي هو في النهاية مسؤوليّة مشتركة لوزارة المالية ومصرف لبنان ولجمعيّة المصارف. وأملنا تخطّي ما يحدث بأقلّ الأضرار!
تسعى الجمعيّة،عبر تحرّك دؤوب، مكثّف ومكلف جداً وبالتعاون مع السلطة النقدية، الى حماية القطاع من الضغوط والمخاطر المتكرّرة الآتية من الخارج. وقد أحرزنا على هذا الصعيد، خلال السنوات الخمس الماضية، نتائج إيجابية مقبولة، ولو نسبيّة، فلماذا استشراس بعض الداخل على الأذيّة مجاناً وكأنه في تحالف مع أعتى الأطراف الخارجية لئلا ّنقول مع أبغض أعداء لبنان؟!