بمناسبة قبول لجنة بازل انضمام لجنة الرقابة على المصارف عضواً في مجموعة العمل الاستشارية Basel Consultative Group لديها، من المفيد العودة إلى إتفاقيات بازل المتعلّقة بالملاءة المصرفية، فنتبيّن الموضوعات المطروحة للنقاش حالياً ومواقف الدول الرئيسية تجاهها بل مجموعات الدول وبخاصة المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية.
بدايةً، لا بدّ من التذكير بأن لجنة بازل تضمّ 27 بلداً عضواً – لبنان ليس منها. فهي تضمّ عشر دول أوروبية – ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة، إيطاليا، إسبانيا، سويسرا، السويد، هولندا، بلجيكا واللوكسمبورغ، وفي عضويتها أيضاً خمس دول من القارة الأميركية – الولايات المتحدة، كندا، المكسيك، الأرجنتين والبرازيل. يضاف إليهما خمس دول من آسيا المتطورة وهي اليابان، أستراليا، كوريا الجنوبية، هونغ كونغ وسنغافورة. أما الدول الناشئة فتتمثل في ستة أعضاء هم الصين والهند وإندونيسيا وروسيا وجنوب أفريقيا وتركيا. وللدول العربية عضو واحد هو المملكة العربية السعودية. وطبعاً، تمثل الأصول المصرفية لهذه الدول مجتمعةً ما يزيد عن 90% من الأصول المصرفية في العالم.
ولمّا كانت مهام لجنة بازل محدّدة بوضع القواعد المصرفية العالمية، فمن الطبيعي أن تتمثل الدول الـ 27 فيها بحكّام مصارفها المركزية وممثلين للسلطات الرقابية المصرفية. وتلتزم عملياً معظم لئلاّ نقول كل دول العالم بمقررات لجنة بازل دون أن تكون لها قوة تنفيذية تلقائية. فهذه المقررات، على سبيل المثال، كي تصبح نافذةً في دول الاتحاد الأوروبي، يُصار إلى إصدارها في لوائح (Directives) من قبل المفوضية الأوروبية. كما يُصار إلى وضعها موضع التنفيذ من قبل السلطات النقدية الوطنية. وغالباً ما تتمتّع السلطات الوطنية بدرجة مرونة كافية في بعض النواحي التطبيقية دون المساس بجوهر اتفاقيات بازل.
تقوم كل اتفاقيات بازل على مبدأ أساسي، هو احتفاظ المصارف بمستوى من الأموال الخاصة (الرساميل والأرباح المخصّصة للاحتياطيّات) متناسب مع القروض والتسليفات الممنوحة. وقد حدّدت اتفاقية بازل الأولى لعام 1988 هذه النسبة بـ 8% من مخاطر الإقراض المرجَّحة بأوزان محدّدة للمخاطر المصرفية، بما فيها بدءًا من العام 1996 مخاطر السوق، أي مخاطر معدّلات الصرف والفوائد. ثمّ أضافت اتفاقية بازل الثانية لعام 2004 مخاطر التشغيل إلى جانب مخاطر الإقراض والسوق، كما أدخلت مفهوم الركائز الثلاث حيث تتمثل الأولى بمتطلّبات الحدّ الأدنى من الأموال الخاصة لتغطية المخاطر المشار إليها واستيعاب الخسائر الطارئة إزاء الأزمات. وتركت الركيزة الثانية للسلطات الرقابية فرض نسب أموال خاصة إضافية إذا رأت ذلك. أما الركيزة الثالثة فألزمت المصارف بشفافية المعلومات للسوق. وطبعاً التزم لبنان هذه الاتفاقية ونفّذتها المصارف كاملةً، فارتفعت أموالها الخاصة من 410 ملايين دولار اميركي عام 1994 إلى 9221 مليون دولار مع نهاية العام 2008/2010. وتقابلها للعامين المذكورين على التوالي نسب ملاءة تجاوزت 4,5% و 12% في متوسط القطاع. ومارست لجنة الرقابة على المصارف سلطتها في الحالات الخاصة لبعض المصارف. وباتت أخيراً التقارير السنوية للمصارف وميزانياتها المجمّعة وحسابات أرباحها وخسائرها تُنشر ضمن القواعد المحاسبية الدولية ومستلزمات الشفافية، بما فيها معلومات وافية عن القروض المشكوك بتحصيلها والمؤونات المكوَّنة لها. في المحصّلة، إن التزام لبنان اتفاقيات بازل وتقوية رساميل مصارفه أكسبا البلد مناعةً واستقراراً وساعداه كثيراً في التعامل مع الأسواق العالمية.
إن إدراج تاريخ 2008/2010 ليس شكلياً. فالأزمة المالية العالمية عام 2008 وما ترتّب عليها من انعكاسات خطيرة على كبرى المصارف العالمية استدعت تدخل الدول لإنقاذ هذه الأخيرة. ودفعت لجنة بازل على بلورة اتفاقية جديدة تحت مُسمّى بازل ثلاثة (Basel III) التي تمَّ الاتفاق بشأنها في تشرين الثاني 2010 بتوجيه من مجموعة العشرين G20. وجاءَت على العموم أكثر صرامةً وتوسّعاً في تحديد متطلبات الرسملة بحيث تصل بالتدرّج حقوق حمَلة الأسهم (CET1) إلى 7% عام 2019، أي أنه تمّت مضاعفتها قياساً إلى ما كانت عليه (3.5%)، وعلى أن تصل تباعاً كذلك الأموال الخاصة الأساسية (T1) والإجمالية (TCR) إلى 8,5 وإلى 10,5 مع نهاية العام 2019، متضمنةً ما يُعرف بالمتطلّبات الإضافية الإحترازية، وكذلك للتسوية (Resolution). ونسارع الى القول إن السلطات النقدية في لبنان ألزمت المصارف بمعدّلات ملاءة أعلى من تلك الموصى بها من لجنة بازل وبفترات تحقُّق أضيق. وكان المطلوب بموجبها وصول مصارف لبنان إلى نسبة 8% لحقوق حمَلة الأسهم العادية و10% للأموال الخاصة الأساسية و12% للإجمالية مع نهاية العام 2015. وتشير المعلومات المتوافرة إلى أن نسبة الملاءة الفعلية في القطاع المصرفي اللبناني بلغت نهاية العام 2015 تباعاً 10,83% و 13,72% و 15,03% (يراجعBilanbanques 2016 صفحة 43).
وبالعودة إلى إتفاقية بازل الثالثة، تجدر الملاحظة أنها أضافت بُعدين إثنين: الأول يتعلّق بموضوع السيولة الذي نظّمته بحيث يستطيع المصرف مواجهة فجوة سيولة لفترة محدّدة من دون اللجوء إلى السوق أو السلطات. والثاني يعود إلى حجم الموجودات مقارنةً مع الأموال الخاصة أو ما يُعرف بالرافعة Leverage. ويعني ذلك عملياً تناسق الاقراض مع مستوى الأموال الخاصة. وهذان البُعدان فرضتهما تطورات الأزمة المالية العالمية. ومعلوم أن المصارف العاملة في لبنان تتّصف لناحية السيولة بمعدّلات أعلى من المطلوب عالمياً، ولو على حساب الربحية. كما أن معدّل الرافعة، أي نسبة الموجودات إلى الرساميل، والبالغ 11 ضعفاً، يُعتبر معتدلاً قياساً إلى ما هو قائم عالمياً.
إتفاقية بازل الرابعة؟
تُجري لجنة بازل منذ عامين ونيّف اجتماعات ونقاشات بطلب من مجموعة العشرين G20، علماً أن دول هذه المجموعة هي المقرّرة عملياً في لجنة بازل. ويتمحور طلب مجموعة الـعشرين على ضرورة تنسيق مناهج احتساب المخاطر بين الدول من دون تعديل في نسب الملاءة وسائر المتطلبات التي نصَّت عليها اتفاقية بازل الثالثة. وهذا التوجّه على بساطته الظاهرة يخفي تعقيداتٍ يزيدها ميزان القوة بين كتل الدول الأعضاء في مجموعة الـعشرين G20 وفي لجنة بازل تعقيداً، وبخاصة بين القطبين الأكبر أي الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية. فبُنية تمويل كل من الإقتصادَيْن تختلف جذرياً. ذاك أن السوق المالية في الولايات المتحدة توفّر أكثر من 70% من الحاجات التمويلية وتقلّ حصة التمويل المصرفي عن 30%، بينما توفّر المؤسسات المالية والمصارف في أوروبا أكثر من 80% من تمويل الإقتصاد مقابل 20% للسوق المالية. ويُشار هنا الى أنه يسود في لبنان النموذج الأوروبي!.
باقتضاب، يطرح الجانب الأميركي ضمن لجنة بازل اعتماد مقاربة نموذجية عالمية Global Standard Approach لاحتسابٍ عام واجمالي للمخاطر، على أن تُعتمد لكل نوع من المخاطر قيم متوسطة مأخوذة من نماذج عالمية تتحدّد على أساسها الأموال الخاصة الدنيا؛ بمعنى أن الطرح الأميركي لا يرى ضرورة التعامل مع ملاءة العملاء.
في المقابل، يرى الجانب الأوروبي أهمية الإبقاء على منهجية بازل ثلاثة، بما فيها مقاربة التقييم الداخلي التي تدرس ملاءة العميل وقدرته على السداد ، وتالياً الإبقاء على متطلّبات الرسملة مربوطةً بالمخاطر الفعلية. فالقبول بالمنهجية الأميركية يعني في نظر الأوروبيين تعبئة أموال خاصة إضافية غير مبرّرة من جانب المخاطر. ويُخشى معها تحميل العملاء أعباء إضافية يمكن الاستغناء عنها. وقد هدّدت المفوضية الأوروبية بعدم ترجمة أي اتفاقية جديدة إلى وثيقة تنفيذية إذا لم تُراعَ مصالح أوروبا.
هذا التباين الأوروبي – الأميركي تفاقم مع إدارة الرئيس ترامب. ويشهد على ذلك الكتاب الموجَّه من الكونغرس إلى السيدة يلين Yellen رئيسة بنك الإحتياطي الفدرالي بتحذيرها من الإلتزام بأية قواعد عمل تقرّر في بازل وتُفرض على المصارف الأميركية.
وسط هذا الواقع، من المرجَّح أن لا ترى أية إتفاقية جديدة في بازل النور بل الإكتفاء بما هو قائم، أي إتفاقية بازل الثالثة، التي طبّقها لبنان متشدّدة في النسب وفي الفترة الزمنية للتطبيق، مع ما يرتبط بها من متطلّبات في الأموال الخاصة ناهيك عن متطلّبات المعيار المحاسبي الدولي للتقارير المالية IFRS 9 في فترةٍ تشهد تراجع ملاءة الدولة وتصاعد مخاطر الإقراض للإقتصاد وتفاقم عجوزات التجارة الخارجية للسلع والخدمات وضمور تدفقات الأموال الوافدة إلى البلد. في هذه الأوقات بالذات، تكثر المزايدات لتحميل المصارف فوق طاقتها دون أن تؤخذ هذه المتطلبات في الإعتبار، ودون أن يؤخَذ تمويل الدولة في الحسبان. حالياً، يصعب تمويل عجز بأربع مليارات دولار، فكيف السبيل الى تدبير تمويل لعجزٍ مرتقب قد يقارب السبعة مليارات سنوياً!...