في نهاية العام 2017 ضجّت الساحة اللبنانية بموضوعات عدّة يجدر التوقف عند بعضها، لكونها ستطبع بطابعها العام المقبل 2018. وهي أولاً الأزمة التي نشأت في شهر تشرين الثاني الفائت إثر استقالة رئيس الحكومة، وثانياً مؤتمر استنهاض الطاقات الاغترابية (CDE ) الذي عُقِدَ في كانكون/المكسيك وثالثها مؤتمر باريس القادم.
أولاً - في الأزمة التي انتهت أو شارفت على الانتهاء
الأزمة هذه كانت مفاجئة وخارج الحسبان، وقد ترتّبت عليها انعكاسات على كلّ المستويات السياسية والاقتصادية والمالية. ونتوقّف في ما يعنينا عند المالية والنقدية منها، تاركين لأهل السياسة وللمجتمع الدولي لملمة ذيولها السياسية والتي، وإن ضُبِطَت، ما زالت تستكمل مجراها، ذلك أن النأي بالنفس مسألة ممارسة وليست حبراً على ورق فحسب. فالمهمّ أن تلتزم القوى والأحزاب السياسية بمتطلّبات النأي بالنفس لئلا نتفاجأ مرةً أخرى بالأزمة ذاتها. فليس التذاكي بعضنا على البعض كسباً للوقت بل مضيعةً له.
لقد أحدثت أزمة شهر تشرين الثاني ضغوطات عالية في أسواق الصرف تجسّدت، من جهة أولى، بموجة تحويل من الليرة إلى الدولار بلغت حجماً غير مسبوق منذ اغتيال الرئيس الحريري عام 2005 وحرب تموز عام 2006 مع إسرائيل. كما تجسّدت،من جهة ثانية، بموجة خروج رساميل حدَّت منها كثيراً إدارات المصارف في تعاونها الوثيق مع مصرف لبنان ومن خلال علاقتها القويّة مع كبار المودعين. وأحدثت الضغوطات التي نتجت عن الأزمة،من جهة ثالثة، ارتفاعاً غير مسبوق بدوره لمعدّلات الفوائد خصوصاً الدائنة في سوقيْ الليرة والدولار. فوائد دائنة عالية على الليرة تدفع المودعين إلى عدم التحوّل من الليرة إلى الدولار، تقابلها فوائد دائنة عالية على الدولار تحول دون تحويل الأموال إلى خارج لبنان، بل ومن المأمول أن تساهم في اجتذابها. وارتفعت الفوائد المدينة على تسليفات المصارف بالليرة وبالعملات الأجنبية أيضاً إلى مستويات عالية يُخشى معها تقلّص الإقراض للقطاع الخاص، ما يحدّ من نمو الاقتصاد، علماً أن التسليف للاقتصاد يشكّل حالياً العنصر الأهم للنمو الاقتصادي في غياب الاستثمار من جانب مجتمع الأعمال اللبناني وفي غياب الاستثمار الأجنبي المباشر. وتندرج في هذا الإطار الحوافز التي ينوي المصرف المركزي توسيعها تشجيعاً للمصارف على الإقراض وتشجيعاً لرجال الأعمال على الاستثمار وتوسيع المؤسّسات وزيادة العمالة وخلق مداخيل جديدة تنشّط بدورها الدورة الاقتصادية.
ثانياً - في تعبئة المغتربين من أصل لبناني
نظَّمت وزارة الخارجية والمغتربين مشكورةً وبنجاح مؤتمراً لاستنهاض الطاقة الاغترابية (LDE ) في كانكون/المكسيك لدول وسط وجنوب أميركا. وحضره من لبنان، بالإضافة الى فريق الوزارة، ممثّلون عن مصرف لبنان وجمعيّة المصارف وثلاثة مصارف هي بنك عوده، بنك لبنان والمهجر وبنك بيروت. كما قدَّم القطاع المصرفي دعماً جعل تنظيم المؤتمر ممكناً. وكان المؤتمر ناجحاً بكلّ المقاييس، إذ حضره حوالى 800 مشارك، نصفُهم تقريباً من المكسيك وعلى رأسهم رجل الأعمال العالمي السيد كارلوس سليم حلو، والنصف الآخر جاءَ من مختلف دول أميركا الوسطى واللاتينية.
أوضحت مداخلات نائب حاكم مصرف لبنان والأمين العام لجمعية المصارف الخدمات والمنتجات المالية التي يقدّمها القطاع المصرفي للمغتربين اللبنانيّين. ويمكن تلخيصها في ثلاثة مجالات: يتمثّل أوّلها وأهمّها في كون القطاع المصرفي اللبناني قطاعاً مصرفياً حديثاً ومنظّماً، يتمتّع بملاءة عالية ضمن المعايير الدولية وبسيولة تتعدّى المتطلّبات العالمية. تُضاف اليهما شبكة فروع متطورة في داخل لبنان (ما يقارب 1100 فرع) وفي خارج لبنان حيث تتواجد مصارفنا في 32 بلداً وفي أكثر من 90 مدينة ولديها شبكة مراسلين تغطّي بشكل كامل القارات الأربع بما فيها أميركا اللاتينية. أما الميزة الثانية للقطاع المصرفي، فتكمن في قدرته على مواكبة عالم الاغتراب في عملياته واستثماراته داخل لبنان من خلال قروض ميسّرة الفوائد إما لأغراض السكن (اقتناء منزل أو تشييد بيت) وإما لأغراض الاستثمار حيث توفّر المصارف قروضاً مدعومة وبفوائد متدنّية. كما يمكن للمغتربين الاستفادة من آليات التعميم رقم 331 الخاص بالشركات الناشئة (Start ups ). وللعلم، فقد تخطّت استثمارات المصارف على صعيد الشركات الناشئة 368 مليون دولار، ولديها طاقة تمويلية لهذا الغرض بحدود 750 مليون دولار، أي ما يعادل 4% من رساميلها. وبات عدد الشركات الناشئة في الحاضنة اللبنانية 800 مؤسّسة توفّر بطريقة مباشرة وغير مباشرة ما يقارب 9000 فرصة عمل. وتساهم المصارف كذلك في صناديق الاستثمار الثمانية التي تمّ إنشاؤها في إطار التعميم 331. وتقدَّر مساهمة قطاع المؤسّسات الناشئة في الناتج المحلي الاجمالي بما يقارب 1,5% وما يعادل تقريباً مليار دولار أميركي حالياً.
وباستطاعة رجال الأعمال المتحدّرين من أصل لبناني، إذا أرادوا إنشاء مؤسّسات صناعية في لبنان، أن يستفيدوا من آليتين إضافيّتين لتمويل الصادرات وتشجيعها. تدير مؤسّسة إيدال IDAL الأولى وتدير المصارف الثانية من خلال برنامج تمويل التجارة البينية العربية، بالإضافة الى القروض ذات الفوائد مدعومة للإنتاج بغرض التصدير. أما الميزة الثالثة للقطاع المصرفي اللبناني، فتتمثّل في قدرة المصارف على إبداء النصح والمشورة لزبائنها من المغتربين الذين يودّون تأسيس وتطوير الأعمال في لبنان أو الدخول في شراكة مع لبنانيّين مقيمين. ومَن أفضل من مصرفيّينا لتوجيه مغتربينا الى مجالات الاستثمار الواعدة و/أو الى الشركاء اللبنانيّين المليئين والناجحين.
ثالثاً - في مؤتمر باريس 4
كَثُر الحديث في الأوساط اللبنانية مؤخّراً عن مؤتمر رابع يُعقد في باريس في سياق المؤتمرات الثلاثة التي سبق أن استضافتها عاصمة فرنسا تحت تسميات مؤتمرات باريس 1، 2 و 3. وبات احتمال انعقاد مثل هذا المؤتمر كبيراً بعد اجتماع المجموعة الدولية لدعم لبنان أخيراً وما أمّنه من مظلّة دولية لإرساء وحماية الاستقرار السياسي في لبنان بما يشكّله من مدخل ضروري بل إلزامي لأيّ برنامج تمويل كبير الحجمٍ من الدول المانحة والمؤسّسات المالية الدولية والإقليمية لمشاريع في الداخل اللبناني. وبحسب المعلومات المتداولة حتى الآن، يتمثّل الفارق بين باريس4، في حال انعقاده، والمؤتمرات الثلاثة السابقة في ناحيتين: أولاً في أن التمويل سيكون محصوراً بمشاريع البنية التحتية من دون ما كان يُسمّى دعم الموازنة أو مالية الدولة. وثانياً في الدور المحوري والأساسي الذي سيضطلع به البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث سيكون الأول مسؤولاً عن إعطاء موافقته أو بطاقة عبور (Validation ) لكلّ مشروع من المشاريع المنتقاة ضمن الرزمة، ما قد يقلّص الى حدٍّ بعيد حجم الفساد وأعداد الفاسدين المحتملين، فيما سيكون صندوق النقد الدولي مسؤولاً عن بلورة ومتابعة الإطار الماكرو- اقتصادي العام بتوازناته المطلوبة على صعيد النمو والتضخم والعمالة والاستقرار النقدي.
إن انعقاد هكذا مؤتمر وخروجه ببرنامج متماسك وبحجم كافٍ لتحديث وتوسيع البنى التحتية البشرية والمادية في لبنان يشكّل فرصةً تأتي في أوانها لجذب رجال الأعمال المتحدّرين من أصل لبناني للاستثمار في لبنان، كي يتشاركوا بطاقاتهم وآليات عملهم وتقنياتهم الإدارية مع نُظرائهم اللبنانيّين الذين لا يقلّون عنهم قدراتٍ وخبرات.
حاشية أخيرة لتشجيع وتسيهل انخراط لبنان غير المقيم في الدورة الاقتصادية للبلد، فإننا ندعو مجدداً وزارة المالية، على هامش إعداد ومن ثمّ مناقشة مشروع موازنة العام 2018، الى تضمين هذا المشروع تعديلاً تشريعياً بسيطاً يقضي بإلغاء المادة 69 من قانون ضريبة الدخل لعام 1959، أي الى إلغاء ضريبة الباب الثالث على مردود رؤوس الأموال غير المنقولة في الخارج. ذلك أن الإبقاء عليها مع انضمام لبنان الى اتفاقية تبادل المعلومات الضريبيّة سيحدّ كثيراً من قابليّة اللبنانيّين غير المقيمين لنقل إقامتهم الاقتصادية الى لبنان. لقد أبعدت الوزارة بمرسومها التطبيقي لقانون تبادل المعلومات الضريبيّة توقيع اتفاقات مع الدول الإفريقية، ما يقي الجاليات اللبنانية فيها من الانعكاسات السلبيّة عليهم. فماذا عن الجاليات اللبنانية في سائر القارات، وبخاصة في أوروبا وأميركا؟ إنهم أيضاً مغتربون لبنانيّون يستحقّون منّا لفتة مماثلة.