في المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس جمعية المصارف يوم الاثنين في 23 تشرين الأول، تكرّرت أسئلة بعض الصحافيّين حول حصول وفد جمعية المصارف أو عدم حصوله على تأكيدات أميركية بشأن عدم فرض عقوبات جديدة على حزب الله! أو الحصول على تأكيدات بشأن عدول الولايات المتحدة عن سياساتها تجاه حزب الله!... في المقابل، تُطالعنا بعض الصحف بمقالات وآراء فحواها أن المصارف ومصرف لبنان تدافع في العاصمة واشنطن عن مصالح القطاع المصرفي دون الدفاع عن حزب الله وما يمثله. والحقيقة أن جمعية المصارف من خلال محاميها تدافع عن مصالح القطاع من منطلقات عدّة. المنطلق الأول أن الجمعية معنيّة بالشأن المصرفي. فالنظام الأساسي للجمعيّة في مادته الثانية يُدرِجُ مسألة تأمين الدفاع الجماعي عن مصالح المصارف الأعضاء في مطلع أهداف تأسيسها، بالإضافة إلى موجب "السعي الى توثيق أواصر التعاون بين المصارف في لبنان والمصارف في جميع البلدان الأخرى..." في هذا الإطار، وللتذكير، فإن جمعية المصارف، قبل إنشاء هيئة التحقيق الخاصة وقبل قوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وضعت عام 1997 وثيقة تحت إسم " اتفاقية الحيطة والحذر"، حول الالتزام بمكافحة تبييض الأموال الناتجة عن الاتّجار غير المشروع بالمخدّرات. وقد وقّعت الجمعية على هذه الوثيقة مع كلّ مصرفٍ عاملٍ في لبنان على حدة، وذلك صيانةً لسمعة النظام المصرفي اللبناني على الصعيدين الداخلي والخارجي.آنذاك، لم يكن موضوع مكافحة تمويل الإرهاب وموضوع حزب الله قد برز الى واجهة الإهتمامات. وللتذكير أيضاً، فإن مضمون هذه الاتفاقية التي أُبرمت عام 1997 أُدرج حرفياً تقريباً في القانون رقم 44/2001 (قانون مكافحة تبييض الأموال) الذي عُدّل ليشمل تمويل الإرهاب.
أما المنطلق الثاني لتحرّك الجمعية لدى الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأميركية، فيعود إلى الإقتناع الراسخ لدى جمعية المصارف بأن الدفاع عن القطاع المصرفي هو حكماً دفاع عن الاقتصاد اللبناني، باعتبار أن المصارف هي بمثابة الدورة الدمويّة لبنية هذا الاقتصاد. وهو حتماً دفاع عن لبنان، كلّ لبنان دون تمييز بين منطقة وأخرى، ودون تمييز بين طائفة وأخرى، ودون تمييز بين لبنان المقيم ولبنان المغترب. ذلك أن القطاع المصرفي بات جامعاً لكل مدّخرات اللبنانيّين، مقيمين ومغتربين. فودائعه تعود لكل الطوائف ولكل الأفراد ولكلّ الأسر التي تملك مدّخرات نقدية وسائلة. ويشهد على ذلك توزّع الودائع على الأقضية وعلى أحياء المدن من خلال شبكة الفروع الموزّعة هي الأخرى بواقعيّة تعكس توزّع النشاط الاقتصادي في المناطق والمدن الكبرى. فحجم الودائع في المصارف التجارية ومصارف الأعمال لا يتناسب مع حجم الاقتصاد (171 مليار دولار كما في نهاية شهر أيلول الماضي مقابل 52 ملياراً للناتج المحلي الإجمالي). وهذا يعني أن مصدر الودائع، بالإضافة إلى النشاط الاقتصادي الداخلي، يتأتّى من إيداعات اللبنانيّين المغتربين في شتّى أنحاء العالم الذين حافظوا على علاقة مع وطنهم الأم، والذين يسعى وزير الخارجية إلى استنهاضهم للاستفادة من طاقاتهم الهائلة. أما القروض التي توفّرها المصارف للاقتصاد الخاص، فتخطّت مع نهاية شهر أيلول ما مقداره 60 مليار دولار بما فيها التسليفات لغير المقيمين ومعظمهم من رجال الأعمال اللبنانيّين. وتكراراً، تبيّن المعطيات أن هذه القروض تذهب للأفراد والأسر والمؤسّسات من كل المناطق والطوائف. ويعكس توزّعها توزّع النشاط الاقتصادي. كما يعكس تركّزها بدوره تركّز هذا النشاط.
المنطلق الثالث في تحرّك الجمعية خصوصاً باتّجاه الولايات المتحدة الأميركية يكمن في كون الاقتصاد اللبناني مدولراً بدرجة عالية جداً: 67% من ودائعه محرّرة بالدولار، وأكثر من 70% من قروضه وتسليفاته محرّرة بالدولار، ناهيك عما يزيد عن 55% من موجودات القطاع لدى البنك المركزي محرّرة بالدولار وموظّفة بمعظمها (أكثر من 90%) لدى المصارف العالمية. يضاف إلى واقع الدولرة في مطلوبات المصارف وفي موجوداتها أن المصارف تموّل بشكل أساسي تجارة لبنان الخارجية، بوارداتها وصادراتها، وحركة السياحة في الإتجاهين وسائر الخدمات العابرة للحدود (Cross - Border). وهذا التمويل يتمّ بالدولار بشكل أساسي حتى مع الصين، أكبر شريك تجاري للبنان. يبقى أن استعمال الدولار في تمويل المدفوعات اللبنانية مع الأسواق العالمية يستدعي علاقات مراسلة متينة ومنتظمة وموثوقة مع المصارف الأميركية في نيويورك، وهي تحديداً : سيتي بنك، بنك أوف نيويورك، ستاندرد تشارترد بنك وبنك إتش.إس.بي.سي HSBC.
وهكذا، فإن استمرارية علاقات المراسلة مع المصارف الأميركية هي فعلاً مسألة حيوية جداً بل شرط لازم لعمل القطاع المصرفي اللبناني مع العالم، خدمةً للّبنانيّين المنتشرين في كل أنحاء المعمورة وللّبنانيّين المقيمين كذلك. وتمرّ تقوبة واستمرارية علاقات المراسلة مع المصارف الأميركية– واستتباعاً المصارف الأوروبية أيضاً– بعدم وجود أية قوانين أميركية مؤذية للقطاع المصرفي اللبناني التجاري والمركزي على السواء. من هنا التأكيد أن الزيارات التي دأبت وفود جمعية المصارف على القيام بها خلال السنوات الخمس الماضية إلى الكونغرس الأميركي وإلى وزارتي الخزانة والخارجية ومجلس الأمن القومي واللقاءات مع المسؤولين فيها عن الملفّ اللبناني، استطاعت أن تُسقِط من التشريعات ما يؤذي الاقتصاد اللبناني وما يؤذي المصارف اللبنانية. وهذا في مصلحة البلد ، كل البلد، وليس المصارف فقط كما أسلفنا. أما القول أن المصارف في زياراتها لا تدافع عن حزب الله بل عن نفسها، فهو قولٌ صحيح. فالشأن المصرفي والمهني هو نطاق تدخّلنا وعملنا. أما الدفاع عن هذا الحزب أو ذاك، فهو شأن أهل السياسة دولةً ومجلساً نيابياً وحكومةً. وهو شأن البعثات اللبنانية إلى الخارج وبخاصة السفارة في واشنطن عندما يُعيَّنُ فيها مهنيّون ذوو خبرة من صلب السلك الدبلوماسي. ومهمّة الدفاع عن الحزب أخيراً لا يؤمّنها أفضل من الحزب ذاته من خلال استراتيجيات وسياسات مقبولة من المجتمع الدولي الذي ما زال، شئنا أم أبينا، يخضع لسيطرة أميركية غـربية. والأزمة الأخيرة الناشئة في بيروت إثر استقالة رئيس الحكومة تلقي الضوء بقوة على هذا الواقع.
إن التزام المصارف اللبنانية بالعقوبات الأميركية أو الأوروبية هو التزام واضح ويخضع للقوانين والنظم اللبنانية، وبخاصة للقانون رقم 44 وللتعميم رقم 126 الصادر عن مصرف لبنان،ويتّم من خلال الآلية التي وضعها البنك المركزي وقبلتها الجهات الخارجية بما فيها الخزانة الأميركية. إنه التزام بمصلحة البلاد والعباد قبل أن يكون بمصلحة مصرفية ضيّقة. وقوانين العقوبات الجديدة على حزب الله لا تُضيف إلى ممارسة المصارف اللبنانية شيئاً، فهي ملتزمة أصلاً بالعقوبات قبل صدور القانون الأول وبعده. والهدف من إقرار هذه القوانين الجديدة قد يتمثل، من جهة أولى، في توسيع النطاق الجغرافي العالمي للعقوبات على الحزب؛ في أوروبا وأميركا اللاتينية وغرب أفريقيا كما يبدو من مضمون الصيغ التي أُقـرَّت في مجلس الشيوخ تحت الرقم S.1559 بتاريخ 5/10/2017 وفي مجلس النواب تحت الرقم HR3329 بتاريخ 25/10/2017. ونظراً للفروقات، وإن قليلة، بين هاتين الصيغتين سيحتاج المجلسان للتوافق على صيغة موحّدة يقرّها الكونغرس وتُحال الى لرئيس الأميركي لإصدارها ومن ثمَّ سيحتاج وضعها موضع التطبيق إلى لوائح إجرائية تصدرها وزارة الخزانة الأميركية. ومن جهة ثانية، قد يتمثّل هدف هذه القوانين في الإجراءات التنفيذية المتشدِّدة والمتعدِّدة التي يضعها الكونغرس على عاتق الرئيس الأميركي والإدارة الأميركية الحالية. فالإدارة الجديدة لا تخفي سياستها المتشدِّدة تجاه حزب الله وسورية وإيران.
حاشية أخيرة على هامش الأزمة السياسية القائمة في البلد حالياً، تجدر الملاحظة أن العديد من وسائل الإعلام وبخاصة تلك التي استشرست في التهجّم والتجنّي على أداء المصارف ومصرف لبنان نراها اليوم تعود إلى "رشدها"، وتغازل مصرف لبنان والمصارف، بل وتحضّهما على الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي. إنها بذلك تعطي الجهاز المصرفي، بجناحَيْه المركزي والتجاري، الحق في السياسات المتّبعة – الهندسات المالية واللوبي المصرفي في الولايات المتحدة- لإدامة الاستقرار النقدي المهمّ جداً لا لأهل السياسة بل وبخاصة للقمة عيش اللبنانيّين. فالقطاع المصرفي كان وما زال، رغم تغيّر وتبدّل سلطة الدولة ومَن يمارسها منذ اتفاق الطائف وحتى تاريخه ، ورغم تبدّل الوصايات والرعاة، يعمل للحفاظ على الاستقرار النقدي ومن خلاله على الاستقرار الاجتماعي لما فيه مصلحة القطاع والاقتصاد والبلاد.