إحقاقاً للحق وللقانون ولدولة المؤسسات، أبطل المجلس الدستوري ما تضمّنته المادة السابعة عشرة من القانون 45/2017 بشأن الازدواج الضريبي صراحةً في ما يعود للمهن الحرّة وضمناً عن المؤسسات الصناعية والتجارية والمصرفية. ونقول ضمناً لكل المؤسّسات إذ لا يُعقل أن يُرفَض الازدواج الضريبي لمخالفته الدستور والقوانين لفئة من المكلّفين وأن يُقبل لفئاتٍ أخرى. فروح قرار المجلس الدستوري إبطال الازدواج الضريبي بالمطلق لكلّ المكلّفين بضريبة الفوائد.
ويبدو أن وزارة المالية أعادت صياغة بعض مواد وفقرات القانون رقم 45 لينسجم ولو في الشكل مع قرار الإبطال الصادر عن المجلس الدستوري. ويبدو كذلك أن التعديلات التي ستقــرّها الحكومة مطلع الأسبوع القادم ستتضمّن على الأرجح، وبتوافقٍ بين أعلى مرجعيات الدولة دونه فرط الحكومة! ، الإبقاء على الازدواج الضريبي على المؤسّسات والمصارف. وسيُحال قانون استحداث الضرائب هذا مجدداً إلى المجلس النيابي بصفة المعجَّل المكرّر ليصار إلى إقراره بسرعة للحؤول على ما يُشاع دون خراب البصرة !! أي دون انهيار الاستقرار المالي للبلاد وما يجرّه من ويلات على العباد!..
ورغم هذا التظهير المأساوي للمسألة – سقوط الحكومة وانهيار مالية الدولة – تجدر الإشارة إلى أن تمويل سلسلة الرتب والرواتب متوافر أولاً من خلال الضريبة الاستثنائية على عمليات المقايضة (السوابات) التي سدّدتها المصارف للخزينة ، والتي تفوق 860 مليون دولار (1300 مليار ل.ل.)، ومتوافر ثانياً من خلال الوفورات في النفقات التي أحدثتها لجنة المال والموازنة جرّاء دراسة مشروع موازنة العام 2017 والبالغة ما يزيد عن 1300 مليار ل.ل. وقد أتى على ذكر هذين المصدرين بحقٍّ وجرأة أحد رؤساء الكتل النيابية في مقابلة تلفزيونية منذ أيام. وهناك مصدر ثالث إضافي متوافر لتمويل السلسلة يكمن في الفائض الكبير جداً المسجّل في حساب الخزينة رقم 36 لدى البنك المركزي و الذي يفوق 24000 مليار ل.ل.. حتى ولو أسقطنا منه سلفات مصرف لبنان للخزينة بالعملات الأجنبية تبقى في هذا الحساب فوائض تقارب 10000 مليار ل.ل. ويبقى يتمتّع بفوائض ملموسة، حتى ولو أخذنا في الاعتبار أن على الخزينة مدفوعات مترتّبة وقيد السداد. إن هذا الفائض يكفي لتمويل السلسلة لسنوات عديدة قادمة في انتظار أن يستعيد الاقتصاد معدّلات نمو كافية وفي انتظار أن تُقرّ الحكومة – كما أعلنه سيّد العهد ورئيس مجلس الوزراء – خطة للنهوض الاقتصادي تتيح زيادة النشاط الاقتصادي ومن خلاله رفع الضرائب والرسوم بشكلٍ صحي وطبيعي.المهم تكبير قالب الحلوى أو الجبنة قبل اقتطاعه واقتسامه بين الدولة والقطاع الخاص.
حاشية إضافية: إذا أُقرَّ الازدواج الضريبي تصبح ضريبة الدخل الفعلية على المصارف على سبيل المثال 35% بدلاً من 17%. تُضاف إليها ضريبة التوزيع (على أنصبة أرباح الأسهم) بمعدّل 10% ثم تلحق المصارف كما سائر المؤسّسات ضرائب القيمة المضافة ورسوم الطابع والعديد غيرها، ما يعني أن حصيلة الضريبة على أرباح المصارف قد تصل إلى 50%. وهي نسبة لا ليس مثيل لها في العالم !. تأتي هذه الضرائب والاقتطاعات في وقتٍ مطلوب فيه من المصارف زيادة رساميلها لتصبح كافية للاستمرار في تمويل الاقتصاد في لبنان ولتمويل عجوزات الدولة، مع تصنيف للمخاطر السيادية بدرجة -B أي مخاطر عالية جداً. وأخيراً تحتاج المصارف إلى رساميل إضافية بغرض الالتزام بالمعايير المالية والمصرفية الدولية القائمة والقادمة!... فمَن تُراه يُقبل على الاستثمار في المصارف من اللبنانيّين وغير اللبنانيّين؟!
هذا السؤال نتركه بعهدة أركان الدولة الذين توافقوا على السير قدماً بالازدواج الضريبي ربما على قاعدة لبنانية معروفة في إدارة الشأن العام تقول " التوافق على الخطأ أفضل من الاختلاف على الصواب!" . قد تكون هكذا منهجية في إدارة البلاد صحيحة ومقبولة في المسائل العادية كاقتسام السلطة وما إليها من ميزات لكنها لا تجوز في المسائل الوطنية الهامة والأساسية كبناء دولة القانون، وكالاستقرار المالي الذي يحمي لقمة عيش اللبنانيّين على اختلاف مذاهبهم ومناطقهم وانتماءاتهم السياسية بل الأيديولوجية. على ذكر المذاهب والمناطق، والشيء بالشيء يُذكَرُ، لا يظُنَّنَ أحدٌ أن المصارف مقتصرة على جهة معيّنة في البلد. ذاك أنَّ بنية ودائعها وقروضها وتوزّعها المناطقي (لا بل حسب أحياء المدن) تعكس البنية الاجتماعية والطائفية بقدر كبير من الحقيقة والدقة! إن توظيفات المصارف في الاقتصاد والدولة والتزاماتها تجاه المقيمين والمغتربين وطنية بامتياز!...
على الصعيد القانوني، بالإضافة إلى ما ذكرنا أعلاه، إن الاصرار على الازدواج الضريبي يشكّل مخالفة صريحة ، من جهة أولى، لمبدأ عدم تراكم الضرائب النوعية ويخالف ، من جهة ثانية، مبدأ عدم جواز إعطاء مفعول رجعي للقوانين الضريبيّة. وهذا ما سنتوقّف عنده باقتضاب.
بالنسبة الى استحداث ازدواج على الدخل نفسه، وللتذكير، يقوم نظام ضريبة الدخل في لبنان على مبدأ عدم تراكم الضرائب النوعية بحيث لا يجوز فرض ضريبة الدخل مرتين على الدخل عينه. وقد نصَّت المادة 8 من الباب الأول من قانون ضريبة الدخل المتعلّق بالضريبة على أرباح المهن الصناعية والتجارية وغير التجارية تحديداً على ما يلي:
" تُعتبر رؤوس الأموال المنقولة وإيرادات العقارات المبنيّة وغير المبنيّة التي تشكّل جزءٍا من أصول المهنة أو المؤسّسة قسماً من الواردات التي تتناولها الضريبة. أما إذا كانت هذه الإيرادات خاضعة في الأصل لإحدى الضرائب النوعية الأخرى على الدخل وأضيفت إلى الأرباح عند تحققها، فإنه يمكن تنزيلها بكامل قيمتها من هذه الأرباح وعدم إخضاعها للضريبة المنصوص عليها في هذا الباب."
وتأكيداً لذلك، نصَّت المادة 70 من قانون الضريبة على دخل رؤوس الأموال المنقولة ما حرفيّته: " تخضع الفوائد والعائدات والأرباح الناتجة عن ممارسة المهنة لضريبة الباب الأول". أي بوضوح ليس بعده وضوح أن العائدات والأرباح المذكورة لا تخضع لضريبة الباب الثالث بل فقط لضريبة الباب الأول عندما تكون ناتجة عن ممارسة المهنة كما هي الحال بالنسبة الى المصارف. وهذا المبدأ، أي تجنّب الازدواج الضريبي، تعتمده جميع الأنظمة الضريبيّة والمعاهدات الدولية. فكيف نوقّع عشرات المعاهدات مع الدول الأجنبية لتجنّب الازدواج الضريبي ونقبل به على مواطنينا ومؤسّساتنا في لبنان؟... لعلّه ظلمُ أهل القربى؟!
في ما يخصّ عدم جواز إعطاء مفعول رجعي للقوانين الضريبية، تجدر الإشارة إلى أن عملية الاكتتاب بسندات الخزينة اللبنانية هي عقد يربط الدولة بالمكتتبين من مصارف ومؤسّسات وأفراد، ولا يجوز تالياً تعديل شروط العقد من طرف واحد. فكل الأطراف المعنيّة كانت قد اكتتبت بسندات الخزينة على أساس أن الضريبة المتوجّبة هي 5%. فكيف للدولة أن تفرض ضريبة 7% على محافظ السندات السابقة لصدور القانون الجديد؟!
ففي ذلك تغيير في اقتصاديّات العقد الجاري بين الدولة مُصدرة السندات والأطراف المكتتبة بها، أي المصارف (43%) ومصرف لبنان (41%) والمؤسّسات العامة (13%) والجمهور (3%).
طبعاً المصارف أكبر المكتتبين، فهل نعاقبها لإقبالها على تمويل الدولة؟ طبعاً ليس ما يمنع الدولة بل هذا حقّها وقرارها أن تضع أية ضرائب ورسوم تراها مناسبة بدءًا من الإصدارات اللاحقة للقانون. في المقابل، يعود للجهات التي تعتزم الاكتتاب بسندات الخزينة أن توازن بين كلفة مواردها بالليرة ومردود السندات خصوصاً في ما يعود إلى آجال الاستحقاق المتوسطة والطويلة. وهذا لو أقبل الجمهور على حمل مخاطر الدولة مباشرةً لكانت المصارف خفضَّت كثيراً من مخاطرها السيادية ومن فجوة الآجال. ونذكّر أن مؤسّسة موديز، في تقويمها الأخير، قد خفضَّت درجة التصنيف مشيرةً بشكل رئيسي إلى حجم إقراض المصارف للدولة!...
استناداً إلى كل ما ذكرناه أعلاه ، نأمل أن يصحّح المجلس النيابي الكريم ما نصَّت عليه المادة 17 من ازدواج ضريبي رغم التوافق السياسي بشأنها، حرصاً على دولة القانون وحرصاً على المبادئ الدستورية التي تنظّم هذا الشأن الوطني العام والهام.
معلوم أن المصارف تتعرّض من الخارج لضغوط متتالية ومتزايدة في مسألة العقوبات الدولية والأميركية. وها هي تتعرّض اليوم من أهل الداخل لضغوط متالية ومتزايدة بدورها. وقد بات لسان حال المصرفيّين : اللّهم ساعدنا على ردّ ظلم أهل البيت أما الأعداء فنتكفّل نحن بهم.