استناداً إلى الأرقام والمعطيات، يخطئ كل من يعتقد أن الاستقرار النقدي معرَّض للاهتزاز في المدى المنظور، أي في مدى السنوات القليلة المقبلة. فلدى البنك المركزي والمصارف من الاحتياطي بالعملات الأجنبيذة ما يفوق 33% من الودائع بهذه العملات لدى القطاع المصرفي. طبعاً ، دون احتساب مخزون الذهب بقيمة 12 مليار دولار أميركي. وتشكّل هذه السيولة بالعملات الأجنبية قياساً إلى حجم الودائع نسبةً جيدة بالمقاييس العالمية رغم النزيف الذي شهده لبنان خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام 2019 في مدفوعاته الخارجية التي أظهرت عجزاً قدره 5187 مليون دولار. وطبعاً، يعود هذا العجز الكبير في جزءٍ هام منه إلى تمويل استيراد لبنان للسلع والبضائع كما يعود جزءٌ آخر لتراجع التحويلات والاستثمارات الأجنبية المباشرة. وللتذكير كذلك، فقد تمَّ تسديد ديون خارجية مستحقة على لبنان بمقدار 1.1 مليار دولار، ما يعني في الحصيلة خروجاً محدوداً للرساميل والودائع منها!.
ثمّة ضجّة أخرى سَرَتْ في البلد حول ارتفاع الفوائد إلى مستويات توصَف بغير المعهودة إزاء المنتجات المالية التي تسوقها بعض المصارف. وهي عمليات تندرج في إطار الخدمات المصرفية الخاصة (Private Banking) أكثر مما هي عمليات إيداع مصرفية عادية. بمعنى أنها استثناء لا قاعدة. فالفوائد المدفوعة بنسبة 11 أو 12 أو 13 بالمئة أو أكثر، هي لقاء مبالغ تساوي أو تتخطّى خمسة ملايين دولار ومجمَّدة لفترة زمنية تقارب أو تتعدّى الثلاث سنوات وتكون خارجيّة المصدر. ثلاث ملاحظات على هذه المنتجات: أولاً، إنها لا تشكِّل في مجملها 1% من إجمالي ودائع القطاع البالغة حسب آخر المعطيات المنشورة أكثر من 170 مليار دولار في المصارف التجارية، 70% منها محرّرة بالعملات الأجنبية وأقل من 30% بالليرة اللبنانية. أي إنها عمليات محدودة بحجم هامشي (Marginal).
الملاحظة الثانية، إن معدّلات الفوائد في القطاع ما زالت رغم الضجيج الذي علا في الآونة الأخيرة أدنى من 6.5% على ودائع الادّخار والأجَل بالدولار وأدنى من 9% على الودائع بالليرة كما في نهاية شهر أيار الماضي. طبعاً مع توجّه تصاعدي تأكّد خلال شهريْ حزيران وتموز حيث توافقت قوى السوق على سقوف أعلى من المعدّلات السائدة في آخر شهر أيار. وبلغت كلفة القروض للزبائن 9.5% في سوق الدولار مقابل 10.75% في سوق الليرة، أي إن فوارق الفوائد الدائنة (الودائع) والمَدينة (القروض) استقرَّت عند 375 نقطة أساس لسوق الدولار و205 نقطة أساس للّيرة، أي بمتوسّط قدره 324 نقطة أساس. وهذه الفوارق هي ضمن ما هو قائم في العديد من الدول المتطورة والناشئة نذكر منها، خلال العام 2018، عدّاً لا حصراً : منطقة شرق آسيا والباسيفيك 500 نقطة أساس؛ منطقة أميركا اللاتينية والكاريبي708 نقاط ؛ مجموعة الدول المتوسطة الدخل (ولبنان منها) 528 نقطة. أما المتوسط العالمي لفوارق الفوائد الدائنة والمدينة ، فهو بحدود 543 نقطة أساس.والمقياس الآخر لمستوى الفوائد يكمن في مقارنة هوامش فوائد الدولار في لبنان مع معدّلات الليبور. ففي أيار 2018 ، بلغ معدّل الفائدة على ودائع الادّخار والأجَل في سوق بيروت 4.67% مقابل 2.34% معدل الليبور لثلاثة أشهر، أي بفارق 233 نقطة أساس. بينما وصل هذا الفارق في أيار 2019 إلى384 نقطة أساس مع ارتفاع المعدّلات في بيروت إلى 6.37% والليبور ثلاثة أشهر إلى 2.53%. هذا الفارق، أي 384 نقطة أساس، يُعتبر مرتفعاً قياساً إلى المستويات التاريخية في لبنان، والتي كانت تراوح بين 250 و300 نقطة أساس كما يعكس ارتفاع المخاطر السيادية جرّاء تدهور أوضاع المالية العامة وتعمّق الخلافات في الإدارة السياسية للبلد.
وتتمثّل الملاحظة الثالثة حول المنتجات المالية الأخيرة التي برزت في السوق أن مردودها للمصارف التي روّجتها لا يتعدّى 1% بعد احتساب ضريبة الفوائد المتوقَّعة (10%). فالهدف الأساس منها ليس الربحيّة بل تقوية مخزون مصرف لبنان من العملات الأجنبية تدعيماً للاستقرار النقدي. ونذكر أن الاستقرار النقدي ليس قراراً مصرفياً بل هو سياسة معلنة للدولة بكلّ مستوياتها. وإذا اتّخذت الدولة قراراً بعدم ربط الليرة بالدولار أو بتحرير سعر صرفها، تنتفي عندئذٍ الحاجة الى هندسات من هنا أو منتجات مالية اشتثنائية من هناك. فسعر صرف الليرة سيتقرّر على ضوء أرصدة ميزان مدفوعات البلد وفوارق الأسعار بين الداخل والأسواق العالمية، وأخيراً من خلال المضاربات. ولا يبدو أن هكذا خيار، أي تحرير سعر الصرف، وارد لدى السلطات المعنيّة. على العكس، فكلّ مكوّنات الدولة تقف وراء الاستمرار في سياسة الاستقرار النقدي، لأنها في مصلحة البلاد والعباد. غير أن الاستمرار في خيار كهذا له متطلّبات عديدة نفصِّلها أدناه.
أولى المتطلّبات أن يصار إلى معالجة مكامن الهدر والفساد. فليس جائزاً أن تعمل معابر التهريب الـ 124 الممتدّة على طول الحدود اللبنانية- السورية "على عينك يا دولة" بكامل طاقتها وفي الاتّجاهين. تأتي البضائع المهرَّبة من سوريا إلى لبنان فتضرب الرسوم الجمركية التي كان يمكن لخزينة الدولة الحصول عليها. وتعبر البضائع المستوردة إلى مرافئ لبنان باتّجاه سوريا، ما يستنزف احتياطيّ القطع عند البنك المركزي وما يخالف أيضاً قرارات الأمم المتحدة بإقامة حظر على النظام السوري. ناهيك عن الحاويات التي تُنزَّل في بعض الموانئ السورية والتي تتبرّع جهات محميّة بنقلها إلى مخازن التجار في لبنان لقاء 10 آلاف دولار أميركي للحاوية الواحد بغضّ النظر عن نوعية وقيمة ما تحتويه من بضائع. وتفوّت هذه الممارسات على المرافئ اللبنانية رسومها وعمولتها وعلى الخزينة مرة جديدة الرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة.
ثاني المتطلّبات أن تستوفي الدولة حقوقها المنهوبة والموزَّعة على العديد من قوى السلطة وقوى الأمر الواقع. فلقد حدّدنا في ورقة العمل التي وضعتها لجنة الدراسات في جمعية المصارف مطارح وقنوات هذا التسرّب. تفوق قيمة هذه العمليات بمجملها أربعة مليارات دولار أميركي، وهي تتأتّى من التقصير الفاضح في جباية الضرائب والرسوم، من جهة ، ومن ضعف تحويل حاصلات المرافئ والمرافق العامة لصالح الخزينة (الاتصالات، المرفأ، المطار وشركة الميدل إيست...). يُضاف إليها طبعاً الهدر في مؤسّسة كهرباء لبنان الذي نأمل أن تحدّ منه الخطة التي أُقِرَّتْ أخيراً. ولولا ضريبة الفوائد التي تقتطعها المصارف لمصلحة الخزينة، ولولا ضريبة الفوائد على توظيفات المصارف في سندات الخزينة اللبنانية ولدى البنك المركزي، لجاءَت حصيلة ضريبة الدخل في لبنان متراجعة عام 2018 بنسبة 20% عنها في العام 2017. وللدلالة على ذلك، فقد ارتفعت بحسب وزارة المالية حصة ضريبة الفوائد من 20% إلى 40% من إجمالي ضرائب الدخل بين العامين 2017 و2018.
ثالث المتطلّبات لدعم الاستقرار النقدي يكمن في وقف تردّي الأداء السياسي في البلد. فالمشاحنات السياسية التي تُستَولَد بشكل متّصل تفوق لناحية استهلاك الوقت وأذيّة البلد أيّة عوامل خارجيّة ضاغطة أخرى. فالقوى السياسية لا تقيم وزناً للوقت بينما عامل الوقت بات داهماً أكثر من أية فترة أخرى من تاريخنا الحديث. فنحن نهدر الوقت في إطلاق برنامج الاستثمارات العامة الذي تقدَّمت به الحكومة إلى مؤتمر سيدر! ونهدر وقتاً ثميناً في إطلاق أعمال التنقيب واستخراج النفط والغاز من قاع بحرنا! ونهدر الوقت في تشكيل الحكومات وفي تحضير البيان الوزاري وفي عرقلة اجتماعات حكومة العمل!. ونهدر الوقت بالإضافة إلى المال في إتمام معاملات الناس في معظم لئلاّ نقول في كلّ الإدارات والوزارات. ونهدر الوقت في إصلاح وتفعيل المؤسّسات العامة لاعتبارات ضيّقة ونهدر الوقت بسبب وبدون سبب! باختصار، نهدر الوقت في عصر السرعة وعصر كسب الوقت! للوقت ثمن أيّها سادة! ونتيجة تدنّي أو انعدام فعاليّة القطاع العام، فإن هدر الوقت يُضيف إلى حجم الهدر والفساد كلفةً ملموسة. وللأسف، لا نلاحظ ونحن نهدر الوقت مدى عزوف شبابنا وبناتنا عن سوق العمل المحلّي. وأخشى أن يكون عزوفاً متدرّجاً عن الأمل بالبلد جرّاء سوء إدارة الدولة والقيّمين عليها.
إن عدم توافر كلّ هذه المتطلّبات يجعل كلفة الاستقرار النقدي تبدو مرتفعة، ويعيدها البعض، بشيء من الصواب، إلى اقتصاد الريع. والحقيقة أنها تعود كذلك إلى غياب سلطة الدولة وإلى انعدام فعاليّتها بالرغم من توسّع إنفاقها ومن ضخامة الموارد البشرية التي توظّفها.