تُجمِع مداخلات وكتابات المسؤولين والخبراء في وسائل الإعلام المرئي والمسموع ومواقع التواصل الاجتماعي في تناولها الأزمة القائمة على مجموعة قضايا، ومنها غالباً "حماية صغار المودعين"؛ إعادة رسملة المصارف وإعادة جدولة / هيكلة الدين العام.
ومفهوم صغار المودعين يتحدّد بالنسبة إلينا بأصحاب الودائع التي تساوي أو تقلّ عن 75 مليون ل.ل. أو ما يعادلها بالدولار الأميركي(50 ألف دولار). وهو المبلغ الذي تضمنه مؤسسة ضمان الودائع عملاً بالتشريع الجديد الذي أدرجه المجلس النيابي مؤخّراً في قانون الموازنة. وتغطّي هذه الضمانة شريحة واسعة من المودعين بحدود 2,5 مليون مودع ونسبتها تفوق 86% من عدد الزبائن. وعليه، يقارب حجم الودائع المضمونة بالقانون 13 مليار دولار، ما يشكّل نسبة أقلّ بقليل من 8% من حجم الودائع كما هي في منتصف شهر تشرين الأول 2019.
تتطلّب حماية صغار المودعين فعلاً لا قولاً ضمان استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي كما هو قائم حالياً أي 1507,5 ل.ل. فكلّ تدهور لأسعار الصرف سيؤدّي حكماً إلى تراجع بل واضمحلال الضمانة، علماً أن ودائع هذه الشريحة من المودعين تتوزّع مناصفةً بين الليرة والدولار (50%-50%). خلافاً للتوزّع العام للودائع: 27% بالليرة مقابل 73% بالدولار!.
ولاكتمال الصورة، يحوز 90% من المودعين حتى 100 ألف دولار وما دون على 14% من الودائع، أي 22,5 مليار دولار بينما تبلغ حصة 98% من المودعين حتى 500 ألف دولار وما دون 38% من الودائع ، أي 61,6 مليار دولار. ومن المهم في اعتقادنا الحفاظ على مدّخرات هاتين المجموعتين اللتين تنتميان إلى الطبقة الوسطى، التي جهدت في إعادة تكوين مدّخراتها ومداخيلها خلال العقود الثلاثة الماضية عقب الحرب الأهلية في لبنان. وتلعب هذه الطبقة الوسطى دوراً مهماً في إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد كونها تتشكَّل بمعظمها من روّاد أعمال ومستثمرين.
في الاقتصاد ولكي نتمكّن من حماية الشرائح الثلاث، من الضروري الحفاظ على استقرار سعر صرف العملة الوطنية؛ والذي يحتاج بدوره إلى معالجة اختلالين اثنين: ميزان المدفوعات الجاري وعجز المالية العامة. وطبعاً، هذان العجزان هما توأمان يغذّي كلٌّ منهما الآخر، خصوصاً في اقتصادٍ صغير وشديد الانفتاح على الخارج.
بدايةً وفي ما يخصّ عجز المالية العامة، فقد سجَّل مستوىً قياسياً مقداره 6503 ملايين دولار عام 2019 مقابل 5609 ملايين دولار لعام 2018 ، أي بزيادة قدرها 894 مليون دولار ونسبتها 16%. يُظهر هذا التطور استمراراً للتدهور الكبير في مالية الدولة العامة بالرغم من التزامات الدولة في مؤتمر سيدر (CEDRE). ويعكس كذلك استمرار منحى الهدر والفساد ومدى النكران من قبل أهل السلطة، إذ يتناقض اتّساع عجز الخزينة مع مقولة الحفاظ على صغار المودعين وعلى القوة الشرائية لمداخيلهم. وليست المرة الأولى فقد مارسوا هذا النكران لسنواتٍ مديدة ، ما أدّى إلى ما نحن فيه اليوم.
وتحتاج حماية صغار المودعين بالإضافة إلى ضبط عجز المالية العامة، إلى ضبط موازٍ للعجز الخارجي المتمثّل بشكل أساسي في عجز ميزان المدفوعات الجارية. وينتج الأخير في لبنان عن العجز التجاري، أي عن الفارق بين ما نستورده وما نصدّره من سلع وخدمات. وفي غياب المعطيات الدقيقة لدينا عن الموازين الجارية – نعتمد تقديرات صندوق النقد الدولي الذي يضعها عند 22% من الناتج، أي ما يقارب 12 مليار دولار سنوياً آخذاً بالاعتبار طبعاً تحويلات اللبنانيّين العاملين في الخارج صافيةً من تحويلات الأجانب العاملين في لبنان إلى أوطانهم بمَن فيهم العمال السوريّين. وبحصيلة التبادل الاقتصادي والمالي مع الخارج، استمرّت المدفوعات اللبنانية في تسجيل عجوزات عالية جداً وصلت تباعاً عامي 2018 و 2019 إلى 4,8 و 4,4 مليار دولار، أي ما نسبته 8,7% و 8% من الناتج. وترتفع نسب العجوزات كثيراً إذا أسقطنا منها سندات اليوروبوندز اللبنانية التي يُدخلها مصرف لبنان. هذه المستويات من العجوزات في المدفوعات الخارجية، الجارية والإجمالية، لا تسمح بالحفاظ على سعر صرف قدره 1507,5 ل.ل. للدولار، وهو السعر المطلوب لحماية مدّخرات صغار المودعين وبعض مكوِّنات الطبقة الوسطى.
وتُمعِن السلطة السياسية المتحكّمة بالقرار الاقتصادي والمالي في البلد منذ قيام جمهورية الطائف في التناقض، عندما تقول بحماية صغار المودعين من خلال سعر صرف 1500 ل.ل. للدولار الواحد بينما تفتح أبواب التبادل السلعي والخدماتي والمالي على مصراعيها مع الخارج. فاستقرار الصرف يتطلّب إما فوائد عالية تقتل النمو الاقتصادي وهذا ما فعلناه خلال الربع قرن الأخير وإما فرض رقابة على الصرف والتحويل تُنهي ما قام عليه النظام اللبناني منذ الانفصال الجمركي مع سوريا في مطلع خمسينيات القرن الماضي. وسلطة القرار تتمادى في نكرانها إذ تطالب بتخفيض بنية الفوائد وتمانع في آنٍ معاً في إقرار نظم رقابة على الصرف والتحويل. تُبعِد المسؤولية عن سياساتها المتّبعة لثلاثة عقود خلت وتستسهل رَمي المسؤولية على المصارف ومصرف لبنان. علماً، وكما أدلى به مُحِقاً أحد النواب الكرام، أن السلطة أسرفت في الإنفاق فاضطرت مصرف لبنان لتغطية إنفاقها. ومصرف لبنان أغرى بدوره المصارف من أجل توفير التمويل له وللدولة. فلجأت المصارف بدورها إلى ودائع الناس فوظّفتها في مخاطر سيادية عالية. هذه السلسلة من السياسات ترتّب مسؤوليات بدرجاتٍ متفاوتة على أطراف المعادلة: الدولة، مصرف لبنان والمصارف.
يكثر الكلام هذه الأيام حول ضرورة الإسراع في المعالجات، ذلك أن كلفة التأخير تتصاعد بوتيرة غير معهودة لدينا ونتفادى احتسابها!. والطروحات الجدّية في غمرةِ ما يُنشر من مساهمات معلنة أو في غرفٍ مغلقة تتّفق – ونتّفق معها – على مسار يمكن تلخيصه بمحورين إثنين:
- يكمن الأول في إعادة هيكلة المديونية العامة بما يجعل من جهة خدمتها قابلة للاحتمال وبما يُحرِّر من جهة ثانية موارد تستعملها الدولة لتطوير البنى التحتية ولحماية الشرائح الاجتماعية الأكثر انكشافاً. وتستدعي إعادة الهيكلة استناداً إلى الدراسات وأوراق العمل العديدة مزيجاً من ثلاث: أولاً شطب ديون الدولة على دفاتر البنك المركزي ومجموعها 39 مليار دولار جُلَّها بالعملة اللبنانية (33 ملياراً منها) وبعضها بالدولار (5,7 مليار). وثانيها إعادة جدولة الدين العام لدى المصارف (28,5 مليار دولار) والذي يتوزّع مناصفةً بين سندات خزينة بالليرة وبالعملات الأجنبية. وتستدعي هذه العملية ، من جهة أولى، إطالة آجال الاستحقاق من متوسط 6 سنوات (8 للعملات الأجنبية و5 للّيرة) إلى الضعف أو أكثر؛ ومن جهة ثانية، تخفيض الفوائد المخدومة على الدين العام من متوسط 6,78% إلى ما يوازي كلفة الودائع المتّجهة نزولاً لدى المصارف. وإعادة الهيكلة هذه تجعل نسبة الدين إلى الناتج تراوح بين 80% و 100% وهي قابلة للاحتمال. علماً أن معاهدة ماستريتش الأوروبية جعلت نسبة الدين إلى الناتج عند 60% مع عجز سنوي لا يتخطّى 3%. غير أن الدول الأوروبية تجاهد للالتزام بها. وهي دول لديها سلوك وانضباط في إدارة المالية العامة غير متوافرين لدينا كما تعاني هدراً ونهباً أدنى بكثير مما لدينا.
وتفترض الدراسات أن الوفر الحاصل جرّاء إعادة هيكلة مديونية الدولة لدى المصارف وإلغائها لدى مصرف لبنان قد ينعكس تراجعاً على خدمة الدين العام بحدود عدّة مليارات من الدولارات سنوياً مقارنةً مع ما هو قائم حالياً، أي 6,5 مليار دولار.
- المحور الثاني لما يُكتَب ويُنشَر حول المعالجات الممكنة يركّز على إعادة رسملة المصارف. ذلك أنه يفترض ضمناً تحمّل المصارف خسائر جرّاء إعادة جدولة المديونية العامة بكلفة متدنّية مقارنةً مع 6,78%. وتلحق بالمصارف خسائر أيضاً جرّاء توظيفاتها خاصةً بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان. وقد أنفقها الأخير على تمويل العجوزات في ميزان المدفوعات منذ العام 2011 حتى نهاية العام 2019 بما لا يقلّ عن 18 مليار دولار بالإضافة إلى 15 مليار دولار سدّدها مصرف لبنان كمدفوعات عن الخزينة تراكمت جرّاء استيراد الفيول للكهرباء وغيرها. وأخيراً يتوجب إضافة قيمة التدهور المترتب على تراجع نوعية محافظ الإقراض للقطاع الخاص والتي تقارب صافيةً من المؤونات عدّة مليارات من الدولارات. وقد تدنّت نوعية هذه المحافظ مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وانعدام النمو وارتفاع معدّلات البطالة مع انعكاسها حتى على القروض الشخصيّة وقروض التجزئة والتي تمثّل أكثر من نصف المحفظة. وترتفع الحاجة إلى رسملة المصارف إذا أضفنا حجم المؤونات التي يفرضها التزام المصارف بقواعد المحاسبة المالية الدولية حتى رغم لبننتها من قبل السلطات النقدية والرقابية مؤخّراً. نذكر أخيراً وليس آخراً متطلّبات تكوين مقدمات نقدية بالعملات الأجنبية بما مجموعه 20% من رساميل المصارف ، أي مبلغ يفوق 4 مليارات دولار مطلوب توفيره مع نهاية حزيران 2020!!..
ولمزيد من سخرية القدر، يطلع علينا ممثّلو الأمة بضريبة جديدة غريبة عجيبة أسموها ضريبة 2% على رقم أعمال المصارف، تضاف إلى أخرى فُرضَتْ سابقاً لا تقلّ غرابةً هي ضريبة الـ 10% على مردود توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان دون السماح بتخفيض ما تؤدّيه المصارف للمودعين من فوائد.
فكيف تتّم إعادة رسملة المصارف في ظلّ هذه الخسائر التي يجري إسقاطها على المصارف بما لا قدرة لها على الاحتمال. وليس ثمّة مَن يجهل الحاجة إلى القطاع المصرفي في مرحلة إعادة النهوض بالاقتصاد. فلا نهوض لأيّ اقتصاد في العصر الحديث بدون قطاع مصرفي حديث ومعافى.
يتمّ استهداف القطاع المصرفي من قبل أهل السياسة لحاجتهم إلى كبش فداء يفتدي سياساتهم وعملية النهب المنظَّم والهدر المقونن للبلاد والعباد خلال ثلاثة عقود.
المستفيدون من سلطة الدولة لا يريدون أن يتحمّلوا أية مسؤولية. بيد أن انتفاضة اللبنانيّين وزخم حراكهم واستمراريته تشكِّل الردّ الواضح والصريح على سلوكيّة أصحاب القرار في سلطة الدولة. المصارف تتحمّل جزءًا من المسؤولية إلى جانب مصرف لبنان لقبول واستمرار تمويل الإنفاق وهدر وسرقة المال العام لعقود ثلاثة!... فالسلطة أنفقت والقطاع المصرفي موَّلَ. وجاء زمنُ الحصاد لما قد زُرِع. وسيأكل اللبنانيّون مما زرعته دولتهم بل القيّمون على قرارها.
يتطلب الخروج من الأزمة معرفة الحقيقة كل الحقيقة وحاولنا أعلاه بلورتها. وبدل تقاذف المسؤوليات وليس الوقتُ وقتَها فلتتعاون كل الأطراف لوضع البلد على سكّة المعالجات. ولنستدعِ دون المزيد من المكابرة صندوق النقد الدولي كونه المؤسسة الأكثر خبرةً في مجال إعادة الجدولة وإعادة الهيكلة فيساعدنا على تدعيم ثم إعادة تنظيم الهيكل فلا ينهار على رؤوس الجميع مهما حَسُنَت نياتهم أو ساءَت.